صحيح أَن مجهولاتي واسعة في الاقتصاد، لكنَّ معلوماتي في القراءة تُعينُني على فهم ما أُطالع فأَستوعب وأُقارن.
بعدما اللغطُ عندنا – وهل عندنا اليوم غيرُ اللغط؟ – تعالى حول الاقتصاد الريعي والاقتصاد المنتج، بحثتُ كي أَفهم أَكثر، لعلْمي أَن الاقتصاد هو العصَب الذي يغذِّي موارد الدولة، وكلُّ ما خارجَ هذا العصب يُفْقِر الدولة إِذ يحرِمُها من مواردها.
بحثتُ أَكثر فوجدتُ شرحًا مفصَّلًا على الصفحة الرسمية لوزارة العدل الكنَدية، وفيها تفصيلٌ لعناصر الاقتصاد.
من تلك العناصر: الاقتصادُ الـموازي أَو الاقتصاد المطمُور، وهو مخفيٌّ غيرُ شرعيّ، لا تدري به الدولة، ويَـمرُّ من مساربَ سرية، كتهريب المخدِّرات والاتِّـجار بالمواد المنوعة.
ومنها: اقتصادُ السوق الرمادية وهو التداول بالأَعمال غيرِ المسموح بها شرعيًّا، كاستيراد البضائع بواسطة قنَواتٍ غيرِ مرخَّصَة من بلد المنشأ، ويتِم التداول بها في سريةٍ تامة، بعيدًا عن أَيِّ مُراقبة من السلطة.
ومنها أَخيرًا: اقتصادُ السوق السوداء، وهو الاتِّـجار بالأَسلحة أَو بالبشر، أَو بالمواد المزوَّرة أَو بالتزوير أَو بالتهريب من كل نوع، وهي تداولاتٌ حذِرة نادرة الضبط لخطورة سلُوكها طرُقًا يؤَدّي فضحُها إِلى أَقسى العقوبات.
هذه العناصر جميعها تؤْذي الاقتصاد، بل تدمِّره، وتاليًا تُضعِف مالية الدولة التي تَشُحُّ مواردُها فيما الملايين تَـجري في غفلةٍ منها وهي لا تدري.
قلت “تجري في غفلة منها”، وأَقصد حصولها في أَكثر الدول حزمًا وتشدُّدًا وتشديدًا وشدَّة مراقبة في جميع مرافقِها ومرافئِها. غير أَن هذه التداوُلات تُصبح أَكثرَ جُرمًا وأَفعلَ أَذى، حين تجري في دولةٍ، كما عندنا، تَنظُر ولا ترى، تُنْصتُ ولا تَسمَع، والأَدهى أَن يكون بين أَركانها مَن يقومون بهذه العمليات اللاشرعية أَو هُم يُغَطُّون أَو يَحمون مَن يقومون بها.
ففي لبنان يَجري التهريب جَهارًا برًّا وبحرًا وجوًّا ولا مَن يضبُطُه. وفي لبنان مجموعةُ مافيات دمَّرت الدولة ولا تزال، ولا حصرَ لجرائمها في حق الدولة والمواطنين. في لبنان لا كهرباء، فتنشَط مافيا المولِّدات. في لبنان لا مياه، فتنشَط مافيا الصهاريج. في لبنان لا دولار، فتنشط مافيا الصرَّافين والسوق السوداء. في لبنان لا مراقبة، فتنشَط مافيا المواد الغذائية الفاسدة. في لبنان لا رفعَ نُفايات، فتنشَط مافيا المتاجرة برفع النفايات وتسييس الـمَكبَّات والـمَطامر. في لبنان غيابُ المحاسبة، فتنشَط أَعمال الغش والتزوير بالـمنتجات على أَنواعها. في لبنان غيابُ حماية المستهلك، فتنشَط مافيا التلاعب بالأَسعار حتى يكتوي بها المواطن ولا يدري إِلى مَن يشكو هذا العُهرَ التجاري.
وكلُّ هذا يجري فوق الطاولة حتى تكادَ لا تعود ضروريةً تداولاتٌ تحت الطاولة، طالما الغش قائمٌ ومحميٌّ ولا خوفَ من ضبْط أَو اعتقال.
جرائمُ جرائمُ من كل نوع، ولا ينفتحُ بابُ سجنٍ واحدٌ يكون عبرةً فيرتدع الباقون. ولماذا يرتدعون والكرْم سائبٌ، والنواطير موظَّفون عند أَصحاب النفوذ الذين يتشدَّقون بضرورة الانتقال من الاقتصاد الريعي إِلى الاقتصاد الـمُنتج، ولكنْ… أَيُّ إِنتاجٍ حين في لبنان مافياتُ الاقتصاد الموازي والاقتصاد الرمادي والاقتصاد الأَسود، وهي ضرَبات قاتلة في قلب الاقتصاد الوطني الذي تشُحُّ مواردُه وتَغنى موارد المافياويين من كل نوع، وجميعُ الموارد تَمضي خارج خزينة الدولة وداخلَ خزينة الاقتصاد الأَسود.
اقتصاد تحت الأَرض؟ ولِـمَ تحت الأَرض؟ لا لزوم لإِخفائه طالما بلغَت الوقاحة بالمسؤُولين أَن يبشِّروا بالإِصلاحات فيما هُم أَعجزُ مِن أَن يُصلحوا زاويةً واحدة سوداءَ في ضميرهم الذي يعيش على الفساد ويدَّعي العفة فيما هو… رمزُ العُهر والوقاحة.
هـنـري زغـيـب