في منطق الرقم أَنه أَسْطعُ إِيجازًا وبلاغةً ووقْعًا من الحرف. فالحرف وحدَه لا وقْعَ له إِنْ لم يتزنَّر بإِخْوته لتشكيل كلمة تعبِّر عن معنى، فيما الرقم وحدَه كافٍ لتشكيل معنًى بليغٍ ذي دلالة مُريحةٍ أَو مُقْلِقَة.
في هذا السياق، قرأْتُ هذا الأُسبوع في جريدة “لو موند” أَنَّ الحكومة البْريطانية خصَّصَت مبلغ مليار ونصف مليار جِنيه سترليني لوزارة الثقافة، دعمًا حركةَ المسارح والمتاحف والمباني التاريخية والتراثية وصالات الفنون التشكيلية والعروض الموسيقية والواحات الثقافية في البلاد، وكانت تجمَّدت جائحيًّا في الأَشهُر الكورونية الماضية. وجاء في بيان الحكومة أَنَّ “هذا المبلغ هو أَكبر استثمار يَشهده قطاع الثقافة البْريطانية حتى اليوم، إِنقاذًا هذا القطاعَ الذي هو بين أَبرز ما تعتزُّ به الدولة”. وعنه قال وزير الثقافة البريطاني أُوليـڤر دوُدِن Dowden: “تعهَّدتُ أَلَّا أَدعَ هذا القطاع يَسقُط في بلادنا التي تعتزُّ به اعتزازَها بأَعزِّ ما تملك”. ولاقى هذا الكلامَ تصريحُ رئيس الوزراء بوريس جونسون الذي قال: “الثقافةُ هي قلبُ بريطانيا النابض”.
وفي هذا السياق ذاته، قرأْتُ في “الفيغارو” أَنَّ وزارة الثقافة الفرنسية خصَّصَت مبلغ خمسة مليارات يورو “لدعم الثقافة ومَن يعملون فيها، كي يواصلوا نشاطًا هو قطاعٌ أَساسيٌّ في الاقتصاد الفرنسي”. وهذا المبلغُ الملياريُّ تمتدُّ مفاعيلُه حتى اليوم الأَخير من سنة 2020، وهو يتوزَّع كما يلي: 706 ملايين يورو لدعم العروض المسرحية والموسيقية، 391 مليون يورو للفنون البصرية، 525 مليون يورو لقطاع التراث المادي وغير المادي والأَبنية التراثية والتاريخية والأَثرية، 217 مليون يورو لدعم المكتبات الوطنية وصناعة الكتاب، و320 مليون يورو لدعم قطاع السينما.
أُكمل بعد؟ أُكمل:
هي ذي أَلمانيا، في تصريحٍ لأَنجِلا مركِل، تخصِّص مليار يورو لدعم قطاع الثقافة، وهو يشكِّل نصفَ الميزانية السنوية للثقافة (مليارَي يورو). وقالت مركِل إِنّ “قطاع الثقافة في أَلمانيا صعقَتْه جائحة كورونا فكان لا بدَّ من دعمه بقوّةٍ كي يُعيد نشاطه في أَسوإِ كارثة اقتصادية عرفَتْها جمهورية أَلمانيا الاتحادية”. وعقَّبَت على هذا التصريح وزيرةُ الثقافة والإِعلام مونيكا غْروتِرْزْ Grütters بقولها: “علينا أَن نُنْقِذَ مشهدَنا الثقافي الفريد فندعمَه بما يُؤَمِّن للناشطين الثقافيين مواصلةَ إِبداعاتهم. لذا أَنشأْنا برنامجًا خاصًا شئْناه انطلاقةً متجدِّدَةً للثقافة”.
أُكمل بعد؟ لا داعٍ. يكفي ما علِمْناه عن سطوع الثقافة وأَهمية وزارة الثقافة في بْريطانيا وفْرنسا وأَلمانيا، كي نعرفَ ما يجب أَن نعرفه: كي نعرفَ أَنَّ وزارة الثقافة سياديةٌ في الدول الحضارية، وكي نعرفَ أَنَّ ميزانية وزارة الثقافة لائقةٌ في الدول الحضارية، وكي نعرفَ أَنَّ وزارة الثقافة لا تكونُ تسكيرةَ كوتا سياسية أَو مذهبية أَو طائفية، وكي نعرفَ أَنَّ وزارة الثقافة لا يتولَّاها محاسيبُ الزعماء، وكي نعرفَ أَنَّ وزارة الثقافة ليست جائزةَ ترضية عند تشكيل الحكومات فتجيْءُ تنفيعةً لإِرضاء رئيس حزب أَو رئيس تيار أَو رئيس طائفة أَو رئيس كتلة ﭘــرلمانية.
بلى: كي نعرفَ أَنَّ تفعيل وزارة الثقافة، ميزانيةً ووزيرًا مثقَّفًا مبدعًا، يجعلُها نجمةَ البلاد ومرآتَها تجاه الدول، وأَنَّ نشاطَها هو الأَبقى من تزفيتِ كيلومتراتٍ أُوتوسترادية أَو تنفيعاتٍ زبائنية في دوائر الدولة تُوقِعُ الدولةَ في خسارةِ مبالغَ منهوبةٍ على صفَقات مشبوهة وعُمولات مَوبوءَة وهَدْر فاجعٍ يجعل الدولة كلَّها في حاجةٍ قُصوى أَن يرغَمَ حُكَّامُها جميعُهم على الخضوع لدوراتٍ تأْهيليةٍ عن مَـحْو الأُمية في حُكْم البلاد.
هـنـري زغـيـب
www.facebook.com/poethenrizoghaib