في حوارية “الأَعمى” لـجُبران (غير منشورة في مؤَلفاته، صدَرَت بإِنكليزيَّـتها الأَصلية سنة 1982، أَنجزْتُ ترجمتَها وتَصدُر قريبًا)، تدور الأَحداثُ في ليلة ثلجية عاصفة، فيقول المجنون في لحظةٍ رائية: “مَن يُمكِنُه النَوم في ليلة ذُعر؟ مَن يَستريح بأَمانٍ بين فَكَّي بركان؟ مَن يُغمض عينَيه وعلى جفنَيه شوك”؟
كأَني بـجبران، في ما وضَعَ على لسان المجنون في كتاباته (من “يوحنا المجنون” في “عرائس المروج”- 1906 بالعربية، إِلى كتاب “المجنون” – 1918 بالإِنكليزية)، كان يَنطق بالحكمة والرُؤْية لكل مكان وزمان.
ها هو اليوم بعد نحو 90 سنة (كتَب حوارية “الأَعمى” نحو 1930 ترجيحًا) يعود إِلى صرخته اللبنانية “لكُم لبنانكُم ولي لبناني” رافضًا ثَعلبَة السياسيين، أَو “مات أَهلي” عن حالة اللبنانيين زمنَ المجاعة في الحرب العالمية الأُولى.
المجاعة!!!
يا لَــهَول مجاعةِ شعبٍ كامل!
وإِننا بلَغناها أَو نكاد، لا بواقعنا المحلي فقط بل بمتابعة العالم يتفرَّج علينا. فها جريدة “التلغراف” البريطانية (عددها 30 حزيران الماضي) تنشر على صفحةٍ واحدة عنوانًا أَبيض لبوريس جونسون رئيس الحكومة: “علينا أَن نقوم بثورة البُنى التحتية في بلادنا”، وإِلى جانبه عنوانًا أَسوَد عن بلادنا: “شعبُ لبنان سيموت بعد أَشهُر” وفي التفصيل: “يتَّجه لبنان إِلى المجاعة. الجائحة تُسَرِّعُ الجوع في هذا البلد الذي تضربه أَسوأُ أَزمة اقتصادية في تاريخه الحديث، وتهدِّده ببلوغِه مجاعةً كانت قَصَمَتْه في الحرب العالمية الأُولى”.
هكذا إِذًا: شعبُنا مهدَّدٌ بالموت مجاعةً ولا يدَ تمتدُّ إِلى مريضٍ مُنْهَك أَو مُشرَّدٍ على رصيف أَو جائعٍ يبحث عن عضَّة في مستوعب نفايات.
التاريخ يستعيد مفاصله؟
لا. طبعًا لا: في الحرب العالمية الأُولى كان شعبُ لبنان ضحية حُكْم “الرجل العثماني المريض”. اليوم هو ضحية حُكْم “الدولة اللبنانية المريضة”.
وإِذا في براكين الحرب العالمية الأُولى امتدت يدٌ غربيَّةٌ إِلى إِنقاذ لبنان، فاليوم لا يد تمتَد، غَربية ولا عَرَبية، خشيةَ أَن يَصْدُمَ اليدَ الممدودةَ مَن يتَحكَّم بـحُكْم لبنان جاعلًا دولتَه سائبة، وحكومتَه غائبة، وسياستَه شائبة، فيما شعبُه يتضوَّر لوعةً وجُوعًا وخوفًا وكُفرًا وغضبًا، ولا يتلقَّى غير تشكيل لجان عقيمة، وسُؤْل مستشارين عقيمين، ووُعودٍ أَفرغَت القواميس من حروف “السين” وكلمات “سوف”، وليرة تذوب، ودولار ينتفخ، ورغيف الخُبز يصبح ترفًا، وحليبُ الأَطفال كابوسًا في أَرَق أُمٍّ حزينة، ورواتب اللبنانيين تستحي من قيمتها.
التاريخ يستعيد مفاصله؟
لا. أَبدًا: الفارقُ أَن التاريخ الذي لعَن الغرباء مسبِّبي المجاعة الأُولى، سيَلعَن اليوم حكَّام البلاد مسبِّبي المجاعة الزاحفة، ويضعُهم في خانة أَسوإِ مَن ساسوا دولةً حوَّلوها من عصرها الزاهر إِلى عصرهم القاهر، وجعلوا اللبنانيين يستعيدون عبارةَ جبران قبل 90 سنة: “مَن يُمكنه النوم في ليلة ذُعر؟ مَن يستريح بأَمانٍ بين فَكَّي بركان؟ مَن يُغمض عينَيه وعلى جفنَيه شوك”؟
هـنـري زغـيـب