منذ أَوَّل زمَن الحجْر، أُتابع على الشاشات الفرنسية برامجَ تسلويةً تثقيفيةً قوامُها أَسئلةٌ يجيب عنها مشتركون – حاضرون مباشرةً في الستوديو، أَو عن بُعدٍ من بيوتهم على منصَّاتٍ إِلكترونية مختلفة – وينالُ جوائزَ ماليةً أَو عينيةً مَن يُصيب الأَجوبةَ الصحيحة، كما في برنامج Personne n’y avait pensé، أَو Chiffres et Lettres، أَو Questions pour un champion أَو Slam وهو الأَشهر لاعتماده طريقةَ الكلمات المتقاطعة أَو لعبة السْكْرابل.
الأَمرُ عاديٌّ ولا أَهميةَ للتوقُّف عنده لولا ظاهرةٌ مشتركةٌ لاحظتُها في معظم هذه البرامج، هي إِطلاقُ معظم الأَسئِلة حول اللغة الفرنسية أَو الكلمات الفرنسية أَو الأَدب الفرنسي أَو أَيٍّ من تراث الثقافة الفرنسية.
وحتى هذه قد تكون عاديةً للتوقُّف عندها، لو لم يحصل لي غير مرة أَن أُتابعَ نتفًا من برامجَ محليةٍ على بعض شاشتنا، وأُلاحظَ أَسئلة ترفيهية سطحيةً لا فائدةَ منها ولا تثقيفَ ولا جدوى للمشتركين والمشاهدين، سوى حزازيرَ وطلباتٍ بعضُها تهريجيٌّ سخيفٌ أَو تنفيذيٌّ أَسخف.
وكنتُ، ذاتَ أُمسية قبل أَشهر، شاهدتُ لقطةً من أَحد هذه البرامج، شارك فيها سياسيَّان، أَحدُهما نائبٌ جنوبيّ والآخرُ بقاعيّ. كان السؤَال للأَول عن سَنة خروج الجيوش الأَجنبية من لبنان فأَجاب أَنها 1943 والأَصح أَنها 1946، وكان السؤَال للآخر عن مُلحِّن النشيد الوطني اللبناني فكان جوابه: الأَخوان فليفل والأَصح أَنه وديع صبرا.
وإِذ لا أَستغرب أَلَّا يكونَ نائبٌ مرَّ يومًا في نهر الكلب وقرأَ بلاطة الجلاء التاريخية أَو على الأَقل قرأَ عنها، كما لا أَستغرب أَن يكونَ نائب آخر يَجهل مُلحِّنَ النشيد الوطني أَو يَجهل حتى كلمات النشيد الوطني، أَرى أَنَّ معظم نوَّاب الوطن ووزرائِه في حاجةٍ مُلحَّةٍ إِلى دورات تدريبية لتأْهيلهم على تراث لبنان تاريخًا أَو جغرافيا أَو حتى سياسةً محلية، كي لا يكونوا نوَّابًا ووزراءَ أُمِّيِّين في معرفة لبنان.
وما دام الأَمر كذلك مع ممثِّلي الشعب (إِن كانوا فعلًا يمثِّلون اللبنانيين) فما القول عن الشعب ذاته، وهو في أَغلبيته الأَوسع يَجهل تراثَ بلاده من كل نوعٍ لكنه بارعٌ بمتابعة سياسييه وتصاريحهم وأَخبارهم و”تُوك شُوَاتهم” وتَوَتُّراهم وتَوتيراتهم وتْوِيْتْريَّاتهم التغريدية، حتى بلغَ معظمُ المواطنين درجةً فاجعةً من تسطيح معلوماتهم واغتيال أَوقاتهم وهدْر عمرهم على سياسيين لا يستحقُّون لحظاتٍ ضئيلةً من العمر.
خلاصةُ الكلام: أَن تتولَّـى شاشاتُنا التلـڤـزيونية – خصوصًا هذه الأَيام في زمن الحجْر المنزلي – إِنشاءَ برامجَ تثقيفيةٍ، مُشوِّقةٍ تسلويًّا، مُفيدةٍ ثقافيًّا، نافعةٍ وطنيًّا، للكبار والتلامذة والطلَّاب، لـمُشاركين حاضرين في الستوديو كما عن بُعد، تكون أَسئِلتها من تراث لبنان الفني والموسيقي والغنائي والأَدبي والتاريخي والأَثري والسياحي والفكري والحضاري واللغوي، يتعرَّف من خلالها اللبنانيون إِلى ثَروات بلادهم وأَعلامها وتاريخها وما في أَرضها من كنوز، ليُحبُّوا لبنان الحقيقي فيَخرُجوا من اصطفافاتهم السياسية ويدخلوا في جوهر وطنهم، فلن يحبُّوا لبنان ما لم يَعوا أَهميته ودَورَه في الحضارة، لينتفضوا على سوء قياداته ويعاقبوا سياسيه بعدم انتخابهم من جديد.
ولا حجةَ لإِدارة المحطات التلـڤـزيونية في استقطاب الإِعلانات. فهذه البرامجُ الثقافية في فرنسا تَستقطب إِعلاناتٍ كثيرةً، ولا بدَّ أَن تجد محليًا مُعلنين تهمُّهم المشاركة الإِعلانية التحفيزية، ماليًّا أَو عينيًّا، في برامجَ تُسلِّي وتُثَقِّف وتُفيد، وتأْخُذ المشاهدين – وهُم في بيوتهم – إِلى سياحة ذهنية ثقافية داخلية في وطنهم الغالي الذي يكادون يفتقدون فيه الخبز، بسبب قيادات سياسية تَعاقَبَت عليه، وما زالَت تتعاقَب، نموذَجُها الفاضحُ نائبَان يَجهل الأَوَّل تاريخَ جلاءِ الجيوش الأَجنبية عن بلاده، ويَجهل الآخَر مَن لَـحَّـنَ لبلاده نشيدَها الوطني.
هـنـري زغـيـب