أَزرار – الحلقة 1138
مجدُ الوطن: مُبْدعوه لا سياسيُّوه
“النهار” – السبت 27 حزيران 2020

لدى عودتي هذا الأُسبوع إِلى ترجمتي القديمةِ رائعةَ أَندريه مالرو “ديغول وأَنا – السنديانات التي يَقْطَعون” (ضمن كتاب “الحبْل والفئران” – منشورات عويدات 1982)، وهو حوار طويل بين مالرو والرئيس بعد رفْضه نتيجةَ استفتاء 27 نيسان 1969، لَفَتَتْني عبارة ديغول يوم تولَّـى الرئاسة (21 كانون الأَول 1958): “علينا أَن نُعلِّم الفرنسيين كيف يستاهلون مجد فرنسا فيستعيدون إِلى بلادهم نُبْلَها ومكانتَها. إِنَّ لي معاهدةً مع فرنسا سأُنفِّذها وأُدافع عن قدَر بلادي”.

يُعلِّق مالرو أَنَّ الرئيس قال: “مع فرنسا”، ولم يقُل: “مع الفرنسيين”. فهذا القائد التاريخي، مذ أَطلق نداءَه من لندن (18 حزيران 1940) كانت فرنسا غايتَه، فرنسا حبيبتَه، فرنسا شمسَه، أَيًّا تكُن مواقف الفرنسيين الذين، بعد كل ما فعَل من أَجلهم كي يحبِّبَهم بفرنسا، خذَلوه فغادر الإِليزيه لينسحب إِلى قريته النائية “كولومبيه” يمضي فيها آخر سنتَين من حياته، خاتمًا بمرارةٍ حوارَه الطويل مع مالرو:”لم يَعُد للفرنسيين طموحٌ وطنيٌّ، ولا استعدادَ لديهم إِلَّا انصياعهم للتيارات السياسية”. وفي مكان آخر من الحوار قال لمالرو: “في شعبنا جموعٌ تَتْبَع سياسيين ممتلئين حقدًا وكراهيةً. لكنهم آنيُّون ظرفيُّون سرعان ما يتقلَّبون بمواقفهم فيُقَلِّبون وراءَهم جموعهم”.

أَهو شعور الخيبة من شعبه؟ أَم الحُرقة أَنَّ شعبه ينقاد إِلى سياسيِّــيه لا إِلى عظمة بلاده في التاريخ والحضارة؟

كان شارل ديغول آتيًا من غَد فرنسا رائيًا أَمسَها كي يواصل لها مستقبلًا يليق بمجدها.

قلتُ التاريخ والحضارة، لأَنهما عُنوانَا الحاكم الرؤْيوي الذي يعرف أَنَّ خلُود الوطن في ذاكرة التاريخ لا يَنسُجُهُ زَبَدُ السياسة والسياسيين بل لؤْلُؤ الثقافة والمبدعين.

ذاتَ يوم كان ديغول يُدشِّن مبنًى حكوميًّا في ﭘـاريس. قبل الاحتفال جاء مَن يَلْفِتُه إِلى غياب اسم الشاعر صاحب البيتَين المحفورَين فوق مدخل المبنى. فأَجاب ديغول بكل شَمَم فرنسيّ: “أَنا شئْتُ ذلك. مَن ليس يعرف أَنَّ البيتَين هما للعظيم ڤـيكتور هوغو، لا يستاهل أَن يحمل هُوية فرنسا”.

إِنه الحاكمُ الرؤْيويُّ الـمُدركُ أَنَّ مجد وطنه هو بالثقافة والإبداع.

ذاتَ يوم آخر، في جلسة خاصة، استغرب أَحدُهم طَلَب الرئيس أَن يجلس مالرو إِلى يمينه في مجلس الوزراء لا رئيسُ الحكومة، فأَجاب ديغول بالاعتزاز الفرنسيّ ذاته: “مالرو لا يجلس عن يميني. أَنا أَجلس عن يَساره”.

إِنه الحاكم الرؤْيوي الواعي أَهميةَ الثقافة والمبدعين في خلود الوطن. ولم تكن مصادفةً أَن يُنشِئَ أَولَ وزارة للثقافة في فرنسا (24 تموز 1959) وأَن يُسلِّمَها طوال عهده إِلى أَندريه مالرو (1959-1969) الكاتب الذي جعلَها “وزارةً سياديةً” ذاتَ سُطُوع.

في هذا الكتاب الرائِع (“ديغول وأَنا”)، وضعَه مالرو، وفاءً، بعد وفاة الرئيس (9 تشرين الثاني 1970) كثير من هذه المواقف الخالدة لرئيس استثْنائي عرفَ أَن مجدَ وطنه ليس من سياسييه العابرين كالغيم العابر بل من مبدعيه الخالدين بآثارهم الخالدة.

هـنـري زغـيـب
email@old.henrizoghaib.com
www.henrizoghaib.com
www.facebook.com/poethenrizoghaib