كأَننا في ليل. في ليلٍ طويل، تتجاذَبُنا أَحلامٌ ساهمة وكوابيسُ داهمة. وحين سنصحو، أَيًّا طالت دُهمة هذا الليل، لن نُفيق على صباحٍ جديد ولا على يومٍ جديد بل على عالَم جديد، كما لو اننا أَهلُ الكهف ناموا أَلفَ عام وصَحَوا فإِذا هُم في عالَم يتطلَّب لقراءَته أَبجديةً جديدة.
سنخرُج لا من الحجْر إِلى الفجْر ولا من الليل إِلى النهار، بل من بابلٍ جائحةٍ إِلى دنيا فاتحةٍ عطاياها لتعامُلٍ جديدٍ مع قضاياها، كما لننقُشَ في حاضرنا سِفْرَ تكوينٍ جديدًا يَنفُض بلادة العتيق لينْحت ريادة الجديد بِـلُغةٍ تهيِّئُ لأَجيالنا المقبلة كَوكبًا يليق بانتظاراتهم رُؤْيانا، فيكون مرورُهم من جحيمنا إِلى فردَوسهم دون العبور بمطهر التَصَفِّي، ويُشَكِّلون بَعدنا عالَمًا يَطوي رياءَ ماضينا ويَفتح نقاءَ حاضرهم على لغةٍ جديدةٍ للكتابة، للمخاطبة، للتعامل مع الطبيعة الواسعة والبيئة الرائعة وأَخيهم الإِنسان.
أَقول اللغة وأَقتصر، تحديدًا هنا، على وسائلِنا ووسائطِنا ككُتَّاب وشعراء.
بعد اليوم، لن يكونَ مكانٌ لِلُغة الأَمس الباردة ومفرداتها الواردة، لا لأَن اللغة تغيَّرَت مفرداتُها بل لأَن المتلقِّي تغيَّر وتاليًا لم تَعُد مفرداتُنا تَعنيه. لغتُنا القديمة كانت مُقَنَّعَة ولم تَعُدْ مُقْنِعة. قارئُ الغد لن “يَندهش” لقصيدةٍ تَعْقِد النجوم شالًا على عنق الحبيبة، أَو تقطِف القمر “تشكيلة” جميلة لشَعرها، ولن يَطْرَبَ لقصيدة غَزَل “تَفترض” امرأَةً في خيال شاعر يكتب لها أَبياتًا تخاطب تمثالًا من رخام، بل يريدُ قصيدة حُب تذوب كلماتُها على قَدَمَي الحبيبة فيذوبُ معها تَماهيًا صوفيًّا في الذات المعشوقة.
بعد اليوم، لم يعُد مهمًّا “ماذا” نكتب ولا “كيف” نكتب، بقدْرما بات مهمًّا: “لِمَن” نكتُب، وكيف نُقْنِعُ المتلقِّي. كلُّ حقل سيتغيَّر، كلُّ ميدان، كلُّ موضوع، كلُّ أَولوية، وعلينا أَن نتأَقلم، لغةَ كتابةٍ ومخاطبةٍ، مع كلِّ حقلٍ وميدانٍ وموضوعٍ وأَولوية. ما كان يُرضي أَمسَنا لن يُرضي غدَ أَجيالنا الجديدة. تغيَّر المتلقِّي؟ فلْيتغيَّر الأُسلوب.
بعد اليوم، مثلما تَنبجسُ جديدةً نقاطُ الندى الصباحيةُ على شفاه الزهر، سنشهد لُغاتٍ تنبجسُ جديدةً في الفنون الجميلة كتاباتٍ ومشهدياتٍ وتشكيلياتٍ وممارساتٍ ونتاجاتٍ وأُطرًا وإِيقاعاتٍ تتواءَم مع عصر جديد تكون عِشْرونَـاهُ (2020) جَناحَي كوكب الأَرض يدور بهما حول الشمس ضاحكًا لها مطمئنًّا إِلى أَن إِنسانه الجديد لن يعود إِلى أَبْلَسَة الكوكب، ولذا يستحقُّ حياةً جديدةَ الكَون والكيان.
بعد اليوم، إِنْ لم نستَلْحِقْ إِيقاع العصر بقاموس العصر ولغة العصر وهموم العصر وتحوُّلاته وأَنماطه وممارساته الدينية والدُنيوية وتجاربه فشَلًا وإِنجازات، وتكنولوجياهُ التي ستولَد لخدمة الإِنسان في أَولويَّاته لا في تَنَمُّراته على أُمنا الطبيعة، فسيَمتطي العصرُ كبسولةً فضائيةً تُسابق سرعةَ الضوء، فيما نحن باقون بكل بَلادةٍ واقفين في صفوف الأَمس على محطة القطار منتظرين الوقت الـمُتَسَلْحِفَ إِلينا بإِيقاعِهِ على دُخان الفحم الحجري.
هـنـري زغـيـب
www.facebook.com/poethenrizoghaib