لا الصيحات ولا الاعتراضات ولا الإِضرابات القطاعية أَثَّرت على إِقرار الرئيس الفرنسي ماكرون قانونَ التقاعد. ظلَّ عنيدًا في تصميمه لِـما فيه صالح فرنسيِّـي العُمْر الثالث، وبادرَ إِلى حجْب معاشه التقاعدي: ظاهرةٌ لم يسبق حصولها في تاريخ رؤَساء فرنسا.
قلتُ “عنيدًا لصالح الفرنسيين”، وكان قبلًا أَصرَّ على عناده حيال مطالب السترات الصفر فلم يحقِّق إِلَّا ما فيه صالح الفرنسيين. فصالح الوطن أَهمُّ من صالح الأَفراد حين مَطالبُهم ليست مقْنِعة ولا مُـجْديةً خزينةَ الدولة.
علامة الحاكم القويّ كلمتُه الفصل/النصل، لا تلتوي مثلما حدُّ النصل لا يلتوي. مقتلُ الحاكم وُعودٌ يطْلقها ارتجالًا أَو تهدئةً ثم لا تصْدُق الوعود، ويفضحه الارتجال.
الثورة اللبنانية، منذ اندلاعها في تشرين اللبناني، قوَّتُها أَن ثوَّارها يعرفون الــ”ماذا” والـ”كيف” والـ”لـماذا” فيسمُّون مسَبِّبي الهدر والفساد ويعرفون مكامن الصفقات بالأَرقام والتواريخ والوقائع، يرفضون عودة الفاسدين إِلى قيادة الوطن ولن يقْبَلوا بأَيٍّ منهم في أَيِّ تركيبة حكومية أَو نيابية وحتى إِدارية.
الذي يجري أَن قادة الوطن، بجميع فصائلهم السياسية والإِقطاعية والزعاماتية، ما زالوا يستغْبُون عقول الشعب بعبارات يظنُّونها تُقْنعه، مكابرين على اقتناعهم أَن الشعب لن يرضى قهرَه بعد اليوم بحكومة “تكنوقراط” تَـخرج من عباءَة السياسيين، ولا بحكومة مستقلِّين اختصاصيين يحركهم جهازُ تَحَكُّم عن بُعد، ولا بحكومةٍ مسخٍ يَضرب المسؤُولون موعدَ ولادتها “خلال أَيام” أَو “قبل نهاية الأُسبوع”، أَو “بعد أُسبوع”، فلا الموعد يأْتي، ولا تَصْدُق الأَيام، وينطوي أُسبوع بعد أُسبوع، ولا يصحُّ وعدٌ ولا تكون ولادة.
ويمضي زعماءُ العشيرة يُرشِّحون أَو يعاندون أَو يَحردون أَو يَتَوَيْتَرُون (على التويتر) أَو يَفرضون، ويتغرغرون بأَلفاظ “تكنوقراط” أَو “تكنوسياسية” وتسمياتٍ سخيفةٍ مقَنَّعَة، ويروحون، طالما هم أَهل السلطة والبلاط، يُمسكون بوزراء منتمين إِلى من كانوا سببًا في الخراب، ويَطبخون حكومةً ميتةً سلفًا ويوزعون الحقائب محاصصةً، ظنًّا منهم أَن الشعب سيرضخ لِمن أَغرقوه في الانهيار أَن يعودوا لإِنقاذه من الانهيار.
هذا هو الفرق البَيِّنُ بين مسؤُولين شجعان ومسؤُولين جبناء. المسؤُول الشجاع يقول كلمته الوُثقى ويبقى عنيدًا بها لأَنه مالكُ فاعليتها وظروفها ونتائجها. الجبان يتلطَّى خلف تعابير مائعة ملتبسة مُقَنَّعة تضخُّ وعودًا جوفاء وافتراضاتٍ عمياء وتفاؤُلاتٍ جرداء ويتوهَّم أَن الشعب يرضى به كما كان راضيًا قانعًا خانعًا منذ سنوات.
لكنَّ الشعب اللبناني اليوم لم يَعُد شعبَ الخنوع والتصديق، بل هو انتفض على جلَّاديه فاستلَّ منهم الكرباج تَهَيُّؤًا لِـجَلْدهم لأَنه فاضحٌ أُلعبانياتهم ووقاحتهم وعُهرهم السياسي وصفقاتهم وصفاقاتهم، ويتحفَّز للقضاء على حاضرهم السياسي ومستقبلهم في السُلطة.
الحكْم في لبنان لن يكون كما كان: الشعب لم يعُد مجموع قطعانٍ أَغنامية ترضى بجزَّاريها وتصفِّق للحاكم، والكرباج انتقل إِلى يد الشعب وبات كل الشعب، في كل لبنان وفي المغتربات، متوثِّبًا لِـخلْع أَيِّ كرسيٍّ ينوي الجلوسَ عليه كلُّ مَن مكانُهُ بعد اليوم تحت شفْرة الـمقصلة.
هـنـري زغـيـب