أَيَّامٌ ثلاثةٌ بعد، وينتصف الليل، وتتنادى الأَجراس، ويشِعُّ في مغارة وضيعة نورٌ بـهيّ، وعلى مذودٍ من خشب تنفتح عينا طفلٍ سيكون له أَن يموت لاحقًا على صليبٍ من خشب.
وبين مذود الخشب وصليب الخشب، سيكون له أَن يغير العالم، لا بالسيف ولا بالقهر بل بـما هو أَقوى: بِقَولة أَنْ “مَن يضرِبُكَ على خدك الأَيمن أَدِر له الأَيسر”، وبِقَولةٍ أَصعبَ: “أَحبُّوا أَعداءَكم، باركوا لاعنيكم”، وبقولةٍ أَبلغَ أَمام الـمجدلية الـملتفَّة بالذل: “مَن كان منكم بلا خطيئة فليرجُمْها بأَول حجر”.
أَيَّامٌ ثلاثةٌ بعد، وينتصف الليل ويولد يسوع، مَن سيكون سيّدَ عالَـمٍ لا عالَـمَ أَبـهى منه، اسمه: الحب.
يحلو للبعض أَن يقطِفَ من كلمة “ميلاد” رموزيةَ حُروفها: فإِذا الـميم مغفِرة، والياء يقين، والـلام لَـمسة إِلهية، والأَلف أَمل، والدال دفْء، وجميعها رموز إِيـمانية طالعة من عينَي هذا الطفلِ الذي سيولد كي يُغيّرَ العالم، يُبشرَ بالحب، يَغمرَ الـمُحبّين، يَـحنو على الضعفاء والـمقهورين، يَنتصرَ للمظلومين، وهي أَسمى ما يُـمكن أَن ينالَ الإِنسانُ من فضائل.
كلُّ هذا يكون ليفعلَه الطفلُ الذي سيولد كي يغيِّرَ العالم وعلى عينيه ينهمل الحبُّ من عينَي أُمه التي قال عنها لوقا: (1-28، 31) “دخَل إِليها الـملاكُ قائلًا: “مباركةٌ أَنتِ في النساء. لا تخافي يا مريم، بنعمة الرب ستحبَلين وتلدين طفلًا تسمينه يسوع، السلام عليكِ أَيتها الـمُنعَم عليها”، وبِاسـمِه يَذكر القرآن الكريم: “السّلام عليَّ يومَ وُلدتُ، ويومَ أَموتُ، ويومُ أُبعثُ حيَّا” (سورة مريم، 29-33).
أَيَّامٌ ثلاثةٌ بعد وينتصف الليل، وفي الأَسِـرَّة أَطفالٌ نيامٌ ينتظرون الهدية في العلبة الملونة، حتى تنفتحَ عيونُـهم مع الشهقات الأُولى من الصباح، فيكون عيدٌ في عيون الصغار قبل أَن يتهادى الكبار ما تبقَّى لهم من عافيةٍ ليكون العيد.
أَفـي المغارة العيدُ؟ أَم في القلب؟ لعلَّه عندنا اليومَ لا في المغارة ولا في القلب بل في الوطن الذي في حاجةٍ هذه الأَيام إِلى الولادة، الولادةِ الجديدة الطالعة إِلى صباحِ مذودِ الخشب من غروبِ صليبِ الخشب، حتى يكونَ فجرٌ شـمسُه تلتمعُ ببريق الرجاء، ولا عيدَ بلا رجاء، ولا ميلادَ بلا رجاء، ولا فرحَ من دون وعدِ الليل بصباحٍ نقيّ.
أَيَّامٌ ثلاثةٌ بعدُ وينتصف الليل، وتتنادى الأَجراسُ أَصداءَ نورٍ وأَلوانَ صلاة، ويتهامسُ الزمن: “الـمجد لله في السماء، وعلى الأَرض السلام، والرجاءُ الصالح لبني البشر”.
أَيها الليلُ الـهابطُ على وطني: ليكُنْ أَن ترتفعَ عَــتْـمَـتُـك عن صدور أَبناء وطني، حتى يكونَ صباحٌ، ويكونَ عيدٌ، ويُضيْءَ الـمذودُ الذي من خشبٍ فسحةَ سلامٍ لوطني قبل أَن يُصلَبَ وطني من جديدٍ على صليبٍ من خشب.
أَيَّامٌ ثلاثةٌ بعدٌ وينتصفُ الليل، وتتصاعدُ الابتهالات: لتَكُنْ عشيةُ الـميلاد وَعْدًا بصباحِ لبنان في اليوم الثالث.
هـنـري زغـيـب