الأَحد الماضي تحدثْتُ عن “يوم الأُونسكو العالَـمي للمُدُن الخلَّاقة” وعلاقة بيروت به، واليوم أَيضًا أَتَـحدَّث عن “يوم الأُونسكو العالَـمي للتراث السمعي البصري” وعلاقة لبنان به.
في كلمة مديرة الأُونسكو لهذا اليوم العالَـمي (الـمُعيَّن سنويًّا في 27 تشرين الأَوَّل) جاء: “شعار هذه السنة هو الانغماسُ في الماضي بالصوت والصورة، عَبْر آلاتهما وأَدواتهما كي نسترجعَ التاريخَ فنَفهمَ الحاضر ونُـخَزِّنَه جليًّا لأَجيالنا الـمُقبلة”.
من تلك الأَدوات والآلات: وسائطُ التواصل التي تجتاح العصر بقمحها وزُؤَانها، بقَيِّمها وسخيفها، بِبَليغها وثرثارها، فتَصبُغُ العصر بـما على أَجيالنا الـمقبلة أَن تُغَربلَه كي تُبقي على صالِـحِه الـمُستدام.
وإِذا في رأْس تلك التسهيلات: أَشرطةُ التسجيلات الصوتية وأَشرطةُ الأَفلام، فالأَجدى لإِرث الـمستقبل أَلَّا يبقى منها سوى الذائق واللائق، الـمدبِّـر والـمُعبِّـر، كي تؤَرِّخَ من كُل مرحلة ناصِعَها ورائِعَها فيتأَرَّخَ مستقبلُ الوطن من بذور الحاضر الـمُشرِّف.
ولأَنَّ سِـمَةَ عصرنا اليوم هي ثورةُ التكنولوجيا الإِلكترونية، فلنُحَــفِّظْ ذاكرتَه مَـحطاتٍ مضيئةً من حاضرنا اللبناني فلا يبقى لِــغَــدِ أَجيالنا الآتية هذيانٌ سخيفٌ سمعيٌّ وبصريٌّ يَـجعلُها تَـخجل به وبنا.
لذا فلْنُبْقِ من حاضرنا مـحطاتِه الـمُشِعَّةَ إِيـمانًا منا بتراثنا السمعي البصري الجدير بقاؤُه لتاريخنا الآتي.
من الـمحطات الـمُشِعَّة في حاضرنا ما يَشهدُه لبنان منذ 17 الشهر الماضي: ثورةٌ على الآذان الـمُكَلَّسة والأَفواه الـمُسمِّمة والنوايا الـخبيثة والتصرُّفات الخسيسة والعهود السياسية الفاشلة والحكومات الـمتعاقبة العاطلة عن العمل، وعلى كُل مَن تَوَلَّـى الشأْنَ العامَّ فحوَّله شأْنًا خاصًا له ولسلالته وذَرِّيته وأَهل بلاطه وزَبَانيته ومـحاسيبه والأَزلام والزَحفطونيين.
فَلْتُسَجِّلِ الأَشرطةُ السمعيةُ والبصريةُ هذه الفترةَ كيف انفجرَت الثورة في لبنان، وربما للمرة الأُولى بهدفٍ واحد ورؤْيةٍ واحدة وصوتٍ واحد ودفاعٍ واحد وغضبٍ واحد، لِـخَلْع سُلطة حاكِمة متحكِّمة بالوطن منذ عقود وهي فاشلةٌ منذ عقود، وستبقى فاشلةً إِن بقيَت هذه السُلطة في كراسي الحكم ولم تَـخلَعْها ثورةُ الشعب الغاضب الذي بدأَ يـخلع صوَر السياسيين ويعلِّق مكانها عَلَمَ لبنان، بانتظار أَن يـخلعَهم عن مقاعدهم.
فَلْتُسَجِّلِ الأَشرطةُ السمعيةُ والبصريةُ صرخةَ الشعب ضدَّ طغيانٍ فاشيٍّ مقنَّعٍ بديمقراطية لفظية مزيَّفة مُـجَوَّفة من معانيها، ضدَّ فساد يَسري في شرايين الوطن فيَقضِم عافيتَه، ضدَّ تعصُّب سياسيٍّ ودينيٍّ أَلغاهُ ارتفاعُ علَمٍ واحدٍ على رؤُوس ثوارٍ واعينٍ مثقَّفين ناضِجي التعبير واضحِيهِ، حاملين وحدَهُ العلمَ اللبنانيَّ الناصعَ الرائعَ بِغِوى أَرزته الخضراء مَـحميًّا بِـحناجرِ مَن يهتِفون بإِيمان واحد: “كلُّنا للوطن”، مستمِدِّين من أَحمر العلَم عافيةً لدمائهم، من بياض العلَم نقاءً لنواياهم، ومن أَخضر العلَم ربيعًا لثورتهم لن تطفِئَه شتاءاتُ العُجَّز والعاجزين والـمعجوزين في مقاعد الحكْم.
فَلْتُسَجِّلِ الأَشرطةُ السمعيةُ والبصريةُ ثورةً بأَلوان العلَم اللبناني كي تبقى تسجيلاتُ اليوم ذخيرةً طويلةَ الـمدى في ذاكرةِ تراثٍ مقدَّسٍ لأَجيالنا الـمقْبلة، تراثٍ عنوانُهُ الـمُواطَنة لا الاستزلام، والوعيُ الوطنيُّ لا الانسحاق الاستسلامي على أَعتاب السياسيين.
فَلْتُسَجِّلِ الأَشرطةُ السمعيةُ والبصريةُ سلسلةً بشريةً شبابيةً شَهِدها لبنان من أَقصى شِـماله الحبيب إِلى أَقصى جَنوبه الغالي، أَيدٍ لم تسأَل يدٌ فيها عن دِين اليد الأُخرى التي تَـمتدُّ إِليها ولا عن مذهبها ولا عن طائفتها ولا عن انتمائها، فإِذا الأَيدي الـمُتماسكةُ تَـتوحَّدُ دِينًا واحدًا موحَّدًا، ومذهبًا واحدًا موحَّدًا، وانتماءً واحدًا موحَّدًا، وانتسابًا واحدًا موحَّدًا إِلى لبنان اللبناني، هَتْفَةً واحدةً لإِسقاطِ منظومةٍ سياسيةٍ طائفيةٍ لم تَـحْكُمْ لبنان بل تَـحَكَّمَت به إِقطاعًا هولاكيًّا نيرونيًّا غبيًّا مَزَّقَ شرايينَ الوطن.
بلى: فَلْتُسَجِّلِ الأَشرطةُ السمعيةُ والبصريةُ أَنَّ 17 تشرين الأَوَّل 2019 تاريخٌ ناصعٌ للبنان يُسجِّلُ استقلالًا مستَحَقًّا طالعًا نقيًا من فجرٍ جديدٍ يَسْتَحقُّه هذا الرائعُ الرائعُ الذي اسْـمُهُ: شعبُ لبنانَ الجديد.
هـنـري زغـيـب