“نقطة على الحرف” – الحلقة 1435
ماما ابعتيلـي زَعتر… ماما ابعتيلـي وَطن
إِذاعة “صوت لبنان” – الأَحـد 27 تشرين الأَوَّل 2019

         إِذا كان طبيعيًّا أَن ينفجر الضغْط في لبنان، كلِّ لبنان، أَرضًا وإِعلامًا وتظاهراتٍ غاضبةً جدًّا، فلم يكن عاديًّا أَن نرى الظاهرة ذاتها تتَّسع إِلى الجوالي اللبنانية في مدُن العالم، قارةً قارة، وأَن ينفجرَ الضغط لدى الـمغتربين بالعنف ذاته كما لدى الـمُقيمين.

         واللافت أَكثر: مع اتساع رقعة الغضب مَـحــلِّـــيًّا وعالَميًّا، توحَّدَت صرخات الشعبِ، مُقيمِهِ ومُغتَرِبِه، في ثالوث: الانتماء والوفاء والولاء. الانتماء إِلى لبنان اللبناني، الوفاء لجيش لبنان، والولاء لعَلَم لبنان، فإِذا بـجميع الأَصوات صوتٌ واحدٌ لاطائفيّ، لا مذهبيّ، لا مناطقيّ، لا عقائديّ، لا حزبيّ، صوتٌ واحدٌ طالعٌ من فَـيْءِ الأَرزة في قلْب العلَم رفضًا قاطعًا أَيَّ حُكْم تَسَلُّطيٍّ قمعيٍّ، واطِّلابًا صارمًا كلَّ ما يغيّر في وجه الوطن الذي شوَّهتْهُ مـمارساتٌ مُتَعنِّتةٌ مُكابرةٌ أَدَّت إِلى هذا الانفجار الذي كَسَر كلَّ خوفٍ وتَرَدُّدٍ وتَبَعية.

         ومع ما رافق تظاهرات لبنان من كتابات فيها النقُّ والشكوى والتذمُّرُ الشخصيُّ ورسمُ كاريكاتورات تُـهَزِّئُ رجالَ السياسة الفاسدين الـمُتَّهَمين بإِيصال لبنان إِلى ما هو عليه، فإِن ما يلْفت، في بلدان الاغتراب، لافتاتٌ من كرتون كُتِبَت باليد تعبيرًا عفويًّا، أَي لا لافتاتٍ مُـحضَّرةٌ سلَــفًا كما يُشِيع الـمُغرضون للْهرَب من مسؤُولياتهم. وإِذا في طرافةِ لافتةٍ حملها أَحدهم “يا ماما ابعتيلي زعتر”، فهي لافتةٌ تُعبِّر عن وجع ٍكثير، وجعِ الولد الـمُشتاق إِلى طربون زعترٍ فيه رائحةُ الطفولة التي اقتُلِعَت من أَرضها.

         الدافعُ إِذًا، هنا وَثَـمَّ في العالم، هو التعبيرُ الصادق عن الوجع من الحاضر، والقلَق على المستقبل، والطموحُ إِلى وطنٍ أَفضل.

         والدافعُ الآخَر إِثباتُ أَن المتظاهرين ليسوا “الزعران” بل أَبناءُ عائلات وجامعيون ذوو أَحلام بوطن يتَّسع لهم ولأَبنائهم فلا يكونون فيه قطيعًا للسياسيين والحكَّام. وهو إِثبات أَن المتظاهرين الثوَّار ليسوا فوضويين بل واعون تـمامًا لـماذا يتظاهرون.

         المغتربون المتظاهرون يعيشون في بلدان يَضبُطها النظام، ولا يجدون هذا النظام الصارم يطال في وطنهم المسؤُولين قبل المواطنين.

         المغتربون المتظاهرون يَـــرَون في وطنهم كياناتٍ سياسيةً كرتونيةً منتفِخةً زُورًا مصطَنَعَةً تزويرًا، ويرَون إِلى وطنهم بِـحنين الغصة أَلَّا يكونَ وطنهم كسائر الأَوطان الحضارية التي يَسود فيها القانون على الجميع بدون استثناءٍ ولا زبائنياتٍ أَغنامية ولا مـحسوبياتٍ قُطعانية.

         المغتربون المتظاهرون بَعيدون في الـهُناك مُبْعَدون من هنا بسبب مَن يُـقفلون عليهم أَبوابَ الوطن لا يفتحونها إِلَّا لأَهل البلاط والـمَدَّاحين والزحفطونيين ولاحسي الأَقدام من القطعان الغبية.

        المغتربون المتظاهرون يتضامنون مع مواطنيهم هنا كي تَسقطَ الشعاراتُ “الوطنجيةُ” الزائفة، والوجوهُ التي استيقظَت باهتةً مذهولةً مصدومةً من قوة الثوَّار.

        المغتربون المتظاهرون يتضامنون مع مواطنيهم السكْرانين بنشوةِ ثورةٍ تقلب الواقع، ثورةِ الغضب والتغير، ثورةِ كسْر الخوف والتردُّد.

        هذا هو الوطن الذي من أَجله يثور اللبنانيون على أَرض وطنهم الغالي وفي أَوطان العالم من أَجل أَن يُصبح لبنانُهم وطنًا لا يحكمه تجار ولا سماسرة ولا وطاويط عمولات.

        هذا هو الوطنُ الذي من أَجله زَلزلَت أَرضُه تحت أَقدام بَنِيه فخرجوا إِلى الإِقدام على اطِّلاب وطنٍ يَـحضُنُهم ولا يُهَجِّرهُم.

       هذا هو الوطنُ الذي يَــنحَت اليوم فجرًا جديدًا للبنان الجديد.

      هذا هو الوطنُ الطالعُ قويًّا ساطعًا من حناجر الثوَّار. 

     هـنـري زغـيـب

email@old.henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib