في “الفيغارو” هذا الأُسبوع بيانٌ بتوقيع 100 كاتب وشاعر وفنان ومدرِّس وعالِـم من 25 دولة فرنكوفونية، يطالبون الرئيس ماكرون بِـــ”حماية اللغة الفرنسية من الاستعمار الأَنكلو-أَميركي”، وبـــ”أَلَّا يتحدَّث بالإِنكليزية خارج فرنسا وبأَن يحدَّ من استعمالها داخل فرنسا”، وخاطبوه بأَن “الفرنسية في ضُمور، تَـخْنُقُها أَنكلو-أَميركيةٌ يكاد الحديث بها يصبح بداهةً يوميةً فلا تعود لغةً أَجنبية”. ورفضوا خطابه في القمَّة الفرنكوفونية السابعة عشْرة (العام الماضي في يِــرِﭬـان-أَرمينيا) بأَن “الفرنسيةَ لغةُ الإِبداع، والأَنكلو-أَميركيةَ لغةُ الاستعمال اليومي في العالم”، وأَبَوا أَن تكون “في مناهج التدريس الفرنسية موادُّ للتدريس بالإِنكليزية”، وشكَّكوا في قدرته على تحقيق ما به وعَدَ أَن “ينتقل الناطقون بالفرنسية من 274 مليون حاليًّا إِلى 700 مليون سنة 2050”.
هكذا إِذًا: هَلعُوا فهَرَعُوا إِلى رئيس البلاد حامي الدستور وأَيضًا حامي اللغة. فاضطرابُ اللغة في وطنٍ يؤَدِّي إِلى اضطراب شعبه في السُلُوك والمنطق والذوق، وإِلى الاستسهال الرَخْو في التفكير فالتعبير. وإِنهم على حقٍّ، هؤُلاء المئة، في هلَعهم على لغتهم الأُم، لغةِ لسانهم والتفكير فالتعبير.
أَين نحن من هذا الهلَع في تَعَامُلِنا مع لغتنا الأُم؟ وأَين هي اليوم حيال هزالها في استعمالات أَولادنا وأَحفادنا؟ أَلا يستحق هذا الخطر تدارك انزلاقه إِلى رخاوة العقل باستخدام لغات مختلفة في عبارة واحدة، وإِدراج كلمات أَجنبية في المخاطبة، كما نرى في هذه الجراثيم المرعبة التي تجتاح إِعلامَنا أَسئلةً من الإِعلاميين أَو إِجاباتٍ من الضيوف؟ وأَمام هذا الـمَسار الانحداري الفاجع: مَن ينقذُنا مِن هذا المشهد اللغوي الذي يعكس كسَل العقل وارتخاءَ الجهد وسخافة “المباهاة بتعدُّدية لغوية” لا نجد فوضاها في سائر لغات العالم؟ التعدُّدية اللغوية ثراء، بل مظهر حضاري شرط استعماله في المنابر المناسبة وفي السياق الطبيعي، دون مزجه في استعمالات فوضوية ومواقفَ يومية تجعله نافرًا تأْباه حتى اللغاتُ المستعمَلَة الأُخرى.
“لسانُ الفتى نصفٌ”؟ صحيح بمعنى لسان “لغته”. لكن النصف الآخر هو “عقلُه” باستعمالها سليمةً غيرَ هجينة.
هذه الظاهرة الـمَرَضية تستوجب مبادرةً وطنيةً لإِنقاذ اللغة من مُسَمِّميها بعمل يصحِّح مسارها تدريسًا واستعمالاتٍ وكتابةً، ويُثبت قدرتنا على استعمال لغتنا الأُم في مخاطباتنا من دون استدانة عبارات أَجنبية ولا الاستعانة بكلمات مستعارة لعجزنا عن إِيجاد مرادفاتها في لغة لساننا.
مبادرة وطنية تلغي هذا الهذَيان الفاقع في كتابة لغتنا بأَحرف لاتينية بات التخاطبُ بها فاحشًا في التواصل والإِعلام والإِعلانات والـمخاطبات حتى باتت لغةُ التخاطُب هجينةَ الشكل والـمضمون، تُؤْذي العين بقراءَتها، وتُؤْذي المنطق باستعمالها، وتُؤْذي العقل باعتمادها خارج كل قاعدة ومنطق وسلوك.
مبادرة وطنية ينهض لها مَن يؤْمنون بأَنَّ اللغة بنتُ العقل، ويعرفون الفرق الجليَّ بين التلاقُح اللغوي الـمُثْمر والتواقح اللغوي الـمُدَمِّر مرايا الحضارة في أَيِّ شعبٍ وأَيِّ وطن.
هـنـري زغـيـب