“نقطة على الحرف” – الحلقة 1418
لا للتناهُم… نَعَم للتفاهُم
 الحلقة 1418 من برنامج “نقطة على الحرف”

          “هَلُمُّوا إِلى الشارع”… ويُهرْوِلون بالمئات حاملين لافتاتِهم وغضبَهم والمطالب، وتمتلئُ بهم شوارع تتعطَّل فيها الحياة.

          “هَلُمُّوا إِلى الاعتصام”… ويتجمَّعون بالمئات في ساحة رياض الصلح أَو الباحات الـمُعَيَّنة، وتتعطَّل الحياة في محيط الاعتصام.

          “هَلُمُّوا إِلى قطْع الشوارع”… وينهمرون بالمئات حاملين الدواليب يُـحرقونها ويُـتْلفون ما حولها ويـُخلِّفون ما يُسبِّبون من أَضرار.

          ويشتدُّ الغضب أَكثر حين تتجاهل الدولة مطالبهم، فيُنْذرون بالتصعيد، وينفِّذون وَعِيدهم فيقطعون شرايين الوصول إِلى العاصمة وتنشلُّ البلاد ومصالحها ومؤَسساتها وينحشر الآلاف في سياراتهم منتظرين الفَرَج.

          وفي كلٍّ من هذه الاحتجاجات يكون المواطن هو الضحية: يتأَخَّر عن عمله، يتأَخَّر عن امتحانه، يتأَخَّر عن طائرته، يتأَخَّر عن مواعيدَ ضرورية، يتأَخَّر عن مدرسته أَو جامعته، حتى إِذا تدخَّلَت القوى الأَمنية كلَّ مرةٍ وفضَّت الاعتصام وفرَّقَت المتظاهرين وفتحَت الطرقات، عاد المواطن يلملمُ خَيبته وخسارةَ وقته ويزيدُ غضبَه على الدولة.

          بقيَ الطلَّاب في الشارع شهرَين كاملين. القضاة في التوقُّف لـمُدة طويلة. الـمُتعاقدون في شبه اعتصام دائم. المتقاعدون يقطعون الطرقات. وهنا وهناك وهنالك مَن يهدِّدون يوميًّا بِـــسَـدّ الطرقات وقطْع شرايين الوطن وحجْز المواطنين دون وصولهم إِلى بيروت.

          هذه حال الدولة اليوم: تتمدَّدُ شراراتُ الغضب، تتوزَّع شظاياه على من لا دخْل لهم، ويكون المواطن دائمًا هو الضحية.

          من تلك التهديدات ما ينفع، إِذ تنصاع الدولةُ للمطالب. ومنها ما لا ينفع فيُعاد التهديد من جديد. وتكبَر كرة الثلج، وتتَّسع رقعة الزيت، ويوقنُ المواطن أَنَّ مطالبه، في معظم الحالات، لا تتحقَّق إِلَّا إِذا اعتصَم أَو تظاهَر أَو أَحرَق الدواليب أَو أَقفَل شرايين الوطن ومنَع الناس من الوصول إِلى أَشغالهم.

          لست هنا في وارد الحكْم على الـمَطالب فقد تكون محقَّة. ولست هنا في كشْف مثالب الدولة فهي أَكثر من أَن تُعَدّ. لكنني أَمام وِقفة ضمير للنهوض من هذا الركود الفاجع، لتكونَ الدولةُ منصِفةً ويكونَ المواطن مُنصَفًا ويتعمَّمَ العدل بين الدولة والـمُواطنين.

          الحلقة الضائعة هنا: المعيارُ الواحد، يعني الانتظام الواحد في نظام واحد في قوانين موحَّدة وأَعراف موحِّدةٍ جميعَ الحقوق والواجبات، يعرفها المواطن فلا يتظاهر كي ينالَ حقوقه، ولا يعتصم كي تسمعَه الدولة، ولا يقطَع الطرقات كي تفاوِضَه الدولةُ فينالَ مطالبه.

          ولكنْ… طالَـمَا ليس من معيارٍ واحد لانتظامٍ موحَّد، فستبقى الدولة معرَّضةً أَن يهدِّدها الـمُواطن حتى تفاوِضَه وتُعدِّلَ في قراراتها مستجيبةً له، وسيبقى المواطن، كما في حارة “كلّ مين إِيدو إِلو”، يحصِّل حقوقَه بالقوة من دولةٍ لا تنفع معها إِلَّا السلبيات، ولا تبلُغ المواطنَ حقوقُه إِلَّا إذا تظاهَر ونزَل إِلى الشارع وأَقفل الطرقات وأَحرق الدواليب، وانفلتَ أَمام كاميرات التلـﭭـزيون يُفرغ غضبَه وشتائمَه على الدولة وأَركانها.

          وحدَه النظام الواحد بالمعيار الـموحَّد يُنقذ الدولة من شتائم المواطنين كي تَنصاعَ له. ووحدَه النظامُ الواحد بالمعيار الـموحَّد يوصل إِلى المواطن حقوقَه فينصاع هو للدولة ويؤَدِّي لها ما عليه من واجبات.

          إِن دولةً لا تلبِّي مواطنيها إِلَّا بـمراضاتهم، ولا تُصدر قراراتِها إِلَّا بــ”الديمقراطية التوافُقِية الرضائية”، سيجيْءُ يومٌ تتغلَّب فيه “التوافقية” على القانون. وحين يُغْلَبُ القانونُ في دولةٍ، تنهارُ معه الدولة، ولن يعودَ لها بعدَه أَيُّ قيام.

هـنـري زغـيـب

email@old.henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib