“نقطة على الحرف” – الحلقة 1416
كـــي يُكْرَمُوا  لا  كــي يُــهَـانُوا
إِذاعة “صوت لبنان” – الأَحـد 16 حزيران 2019

         وسْط جَــوّ الامتحانات الذي يلفُّ البلاد هذه الأَيام، وما يحيط به من أَصداء مُشَوَّشة حول الأَسئِلة والضُغوط وكاميرات الـمراقَبة الـمسلَّطة في الغُرَف على الـمراقبين والتلامذة، أَتذكَّر لقاءً تلفزيونيًّا في محطة “آرتـي” الثقافية الفرنسية/الالـمانية مع الفيلسوف الفرنسي ميشال سِــيْرّ  Michel Serres (توُفي قبل أُسبوعين، في الأَوَّل من هذا الشهر عن 88 عامًا) قال فيه إِنَّ الـمدرسة لم تَعُدِ الناقلَ الوحيدَ للمعلومات، حيال تَعَدُّد الـمصادر من إِذاعات وتلفزيونات وصُحُف ومجلَّات ومواقعَ إِلكترونية ووسائِطِ تَواصُل لا تُـحصى، وأَجهزةٍ ناقلةٍ تَتَعَدَّد هي الأُخرى بين الكومبيوتر والهاتف الـمَحمول واللَوح الذَكيّ وسواها مِن التي باتت على أَطراف الأَنامل، كما ذكَرَ ميشال سِيْرّ ذاتُه من خطابٍ في جلسة عامة للأَكاديميا الفرنسية سنة 2011 إِذ قال: “العالَـم تَغَـيَّر جذريًّا وبات على أَجيالنا الشابَّـة أَن تـخترعَ كلَّ شيءٍ من جديد”، وأَضاف: “عَرَفَ العالـم نَقْلَـتَين ثَوْريَّـــتَين: مِن الشِفاهة إِلى الكِتابة ومن الكِتابة إِلى الطِباعة، وها هو يعرف حاليًّا نقْلَتَه الثوريَّةَ الثالثةَ مع جيلٍ ناشئٍ يتعامَل في سرعةٍ رقميةٍ بـإِصبعه الصغيرة على مكابس الكومبيوتر أَو جهازه الـمحمول”. وهو ما عاد سنة 2012 فَوَسَّعَه في كتابه “الإِصبع الصغيرة” (Petite Poucette).

          أَعود إِلى أَجواء الامتحانات عندنا هذه الأَيام وأُقارن بينها وبين ما قاله الفيلسوف الفرنسي:أَيُّ نظامٍ تربويٍّ يَـحكُم أَسئِلة هذه الامتحانات؟ وماذا في الأَجوبة عنها مـما يساعد النُمُوَّ الفكري لدى التلميذ حين يُـجيب عن أَسئلة الامتحانات؟ وماذا يَنفَع التلميذَ في حياته العامة لاحقًا حين يُـجيب بَبَّغائيًّا عن أَسئلةٍ لا علاقةَ لها بِـجَــوِّه العائلي والاجتماعي وبمحيطه القريب والعام وبِبِيئته التي يكبر فيهما كي تنمو مَداركَه الـمعرفية؟

          وأَكثر: أَيُّ خطة تربوية تواكب العصر في برامجَ ومناهجَ وكتُب مدرسية ووسائلَ تربوية، حين الغربةُ قاتلةٌ قاسيةٌ بين البيئة الـحاضنة وصفحات كتُبٍ مدرسية عتيقة لأَن الـمناهج كانت ولا تزال هي هي منذ سنواتٍ عتيقة وليس مَن يُطوِّرُها؟

          وأَكثر بَعد: أَيُّ رؤْية تربوية تعليمية تثقيفية تُـخطِّط لها وزارة التربية، عبْر جيوش موظفيها وخبرائِها ومركزها التربوي، لاستقبال السنوات الـمقْبلة وما تَـحملُه من تطوُّرات منهجية سوسيولوجية سيكولوجية حتى تُـهَيِّئَ للسنوات الـمقبلة جيلًا لبنانيًّا جديدًا لا يكون غريبًا عن عصره ومـحيطه ومتطلِّبات مداركه الـمعرفية؟

          أَين مناهجُنا التربوية وبرامِـجُنا التربوية وخِطَطُنا التربوية ورُؤْيتنا التربوية واستباقاتُنا التربوية حَيَال أَطفالٍ يَدرُسون في كتُب عتيقة ومدارس بليدة ومناهج خارج العصر، والـمركزُ التربويُّ منذ سنواتٍ يشكِّل اللجان تلو اللجان ولا لَـجنةَ خرجَت بِـمنهَج عصريٍّ جديد؟

          دخولُ العصر لا يكون في كاميرات مراقَبة بوليسية داخل غُرَف الامتحانات تُـحَدِّق في التلامذة والـمراقبين، ولا في غُرَف الصف اليومي تُـحَدِّق في التلامذة والـمُدَرِّسين. هكذا نُــهَـــيِّـــئُ  تلامذتَنا للامتحان كي يُكْرَمُوا لا  كي يُهانُوا.

          دخولُ العصر يكون في التطلُّع إِلى غَدٍ يأْتي فلا يعيشه أُولادنا ماضيًا مُـحَنَّطًا ولا حاضرًا تَـحنيطيًّا، بل يَعيشونه في غَـدٍ يأْتي حاملًا إِليهم تطوُّراتِ العصرِ الـمتسارعةَ التي لن تنتظر إِجراءاتٍ سُلَحْفاتيةً وتدابيرَ زَجْريةً تعاقب متظاهرين أَو تفاوض مُضْربين أَو تُـمَــيِّــعُ مطالب مُدَرِّسين يطالبون بحقوقهم تاركين خلْفهم أَجيالًا تتفرَّج مذهولةً على مسؤُولين يعالجون الحاضر ترقيعًا مُغْفلين تَطَوُّرًا تربويًا عالـميًّا سريعًا يَـجعل التلامذة في العالـم يُقْبلون على الدرس بشَغَفٍ ولَذَّة بينما تلامذة لبنان يُقْبلون على الدرس بامتعاضٍ مزعجٍ من كتُبٍ ومناهجَ تَـجعل الدراسة عُقُوبةً تزيد من إِزعاجها كاميرا مراقِبَةٌ في قاعة الامتحان.

هـنـري زغـيـب

email@old.henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib