“أَزرار” – الحلقة 1087
قُدرَةُ تركيز السَمَكَة الحمراء
“النـهار”  –  السبت 1 حزيران  2019

         إِذا كان لكل عصرٍ إِدمانُه، فإِدمانُ هذا العصر الانحباسُ الطوعي في شَــرَك الشِباك الاجتماعية الـمُكْـتَـظَّـة على مساحة الشاشة الصغيرة.

               شاشةُ الكومـﭙـيوتر أَو الهاتفِ الـخَلَويّ أَو اللوحِ الذكيّ، زنزانةٌ مرصوصةٌ ضَــيِّـقَةٌ يُـمضي فيها الـمُدمنون ساعاتٍ طوالًا بقلقٍ وتَرَقُّبٍ وتَوَتُّرٍ ومشاعرَ تنعكس مباشرةً على حالتهم النفسية وجهازهم العصَبي، شعروا بذلك ظاهرًا أَو لم يشعُروا.

               قدرةُ تركيز السمكة الحمراء لا تتجاوز 10 ثوانٍ، وإِدمانُ الإِنسان على شاشته الصغيرة يتمطَّى ساعاتٍ طويلة.

               فهذا يترك جهازَه مفتوحًا طول الليل، ويأْرق مرارًا كي يتفقَّد مهجوسًا إِن كان رنَّ أَو جاءتْه رسالةٌ وهو نائم.

               وهذا يُـجَـنُّ إِن كان في مكانٍ لا شبكة فيه موصولة على الإِنترنت.

               وهذا الذي ينسى ما حوله ومَن حوله ويغوص على شاشته منتظِرًا، متفَقِّدًا، مُـجيبًا عما تلقَّاه، منعزلًا عن محيطه.

               وهذا الـملهوفُ إِلى استطلاع ما جرى لزميلٍ له أَو صديق أَو حبيبة، مُتابعًا أَو ناصحًا أَو مُقَدِّمًا حُـلُولًا واقتراحات.

               وهذا الـمترقِّبُ رنَّةَ جهازه كي يَهرعَ فيفتَحَه قارئًا آخر خبرٍ وصَلَ من موقع أَو تطبيق، يقرأُه وحده ويقاطعُ الذين حوله كي يقرأَ لهم ما قرأَه، ويُـمضي الوقتَ متفَقِّدًا جهازَه، قارئًا ما يأْتيه، مشاركًا به مَن حوله.

               وهذا أَسيرُ أَناه الـمُتعالية، يتابع في المواقع والبريد الإِلكتروني ما يأْتيه من ردودٍ على نص نشَرَه أَو صورة أَرسلها أَو مقطوعة كتبَها أَو نكتة فاقعة وزَّعها، كي يرى عددَ الذين أَجابوا أَو تفاعلوا. وإِذا كان العددُ ضئيلًا شعرَ بالوحدة والانعزال والبُعاد لأَن ردود الفعل حيالَه كانت ضعيفة أَو معدومة، فيُحسُّ بالفشل أَو الدُونية.

               وهذا الذي يضيع تائهًا كما في صحراء إِذا نسِيَ جهازه وخرَج من دونه، كأَنه فَقَدَ توازُنَه أَو عقلَه أَو ذاكرتَه، فيَظلُّ مُشَوَّشًا مضطربًا متوتِّــرًا ولا يهدَأُ حتى يعودَ فيشعرَ أَن هاتفَه عاد إِلى قبضته أَو جيبه.

               وهذا الذي يُـمضي وقتًا طويلًا يُسجِّل رسائل صوتية وينتظر أَجوبتها الصوتية ويسجِّل رُدودًا على الأَجوبة فينحَرُ وقتَه في تُــرَّهات وتفاهات تَذبح عُمره وهو لا يدري، أَو هو يدري لكنه عاطلٌ عن الإِنتاج وتاليًا عن فاعلـيَّته في الـمجتمع.

               وهذا الذي يضع هاتفه على مقوَد السيارة كي يكتُبَ أَو يتلقَّى، مُعَـرِّضًا ذاته للخطَر والسوى للحادث، وغالبًا ما يكون الحادث مؤُذِيًا أَو كارثِــيًّا أَو حتى… قاتلًا.

               هذا الهاجسُ هو مَرَضُ العصر الناتجُ عن الانحباس الـمتواصل في هذه الشاشة الصغيرة ليلًا نهارًا، وهو يؤْذي إِنسانَ العصر في صحته العقلية التي باتت مرتبطةً بِـجِهازٍ آلـيٍّ ذكيٍّ، أَذكى ما فيه أَنه يَـحبس الإِنسان في مساحةٍ أَصغرَ من دماغه أَكبرَ من حُــرِّيَّـــتِـه فتجعلُه سجينَها الـمحكومَ بـهالتها الهولاكية الفاغِرَة شَدقَيْها لافتراس وقتِه، وقَضْم أَعصابه، وأَسْرِ حياته داخلَ زنزانةٍ افتراضية.

هـنـري  زغـيـب

email@old.henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib