790 رسالة حُبّ أَصبحَت الآن متوفِّرةً على شبكة الإِنترنت من أَصل 22000 رسالة كتَــبَـتْها جوليــيت دْرُوْوِيه Drouet (6/4/1806-11/5/1883) إِلى حبيبها الشاعر الخالد ﭬـيكتور هوغو Hugo(26/2/1802-22/5/1885) طيلة 50 سنة (1833-1883).
هذه الآلاف من الصفحات الدافئة التي دوَّنتْها العاشقة يوميًّا إِلى شاعرها، لا تَـتضمَّن أَجوبةَ الشاعر، لكنَّ نصوصها ترسم خطًّا بَيَانيًّا لسيرة الشاعر العاطفيَّة الطويلة، منذ رسالتها الأُولى عند مطلع العلاقة: “هل تسمح أَن تعطيني من وقتكَ بضعَ دقائق بعد الساعة 10:00؟ أَحتاج أَن أُكلِّمَكَ” (17/2/1833)، إِلى جوابِها عن طلبه الخروجَ معها في سهرة: “يا مَعبودي، لكَ القرار ولي التنفيذ. جاهزة لمرافقتِكَ. أَنا أَعبُدُكَ” (5/9/1882)، حتى الرسالة الأَخيرة قبْل وفاتها بأَسابيع: “أَنا سعيدةٌ وفخورةٌ أَن أُوَقِّع شهادةَ حياتي بكلمة واحدة: أُحبُّكَ” (1/1/1883).
تلك الكتابات، يوميَّاتٍ بقيَتْ لدى كاتِـــبَــتِــها أَو رسائلَ حملَها البريد إِلى الشاعر، لو جئتُ أُقارنُها بالـمُتوافِر اليوم من وسائل اتصال (الهاتف أَبرَزُها) ووسائطِ تَواصل (إِلكترونيَّة فوريَّة) لبدا طبيعيًّا أَن تَـبلُغ هذا العددَ في أَقلَّ بكثيرٍ من نصف قرن. ولكنْ، هل لها التأْثير ذاتُه والقيمةُ ذاتُها؟ وهل سـتـبْـقى في ذاكرة الحفْظ كما تَــبْـقى ورقيًّا؟
الكتاباتُ الإِلكترونيَّة الآنيَّة مصيرُها الاندثار السريع والزوال الفوري، تَـحكُمُها سرعةُ التشكيل والإِرسال، خصوصًا بـما في الرسائل النصية من اختصاراتِ كلماتٍ بأَحرُفٍ، أَو مشاعرَ برُمُوزٍ مصَنَّعة وصُوَرٍ عموميَّة، وتـبـقى محكومةً بـالـمُوَقَّت العاجل كتابةً وتَلَـقِّـيًـا وإِجابات. وفي كتابات الحب بالذات، تُفقِدها زَواليَّـتُها حرارةَ اللحظة الـمُلتهبة، إِلَّا في حالاتٍ نادرة جدًّا إِذا تـأَنَّـى عاشقٌ مجنونٌ بِـحـبـيـبـتـه في نقْل تلك الكتابات من جهازه (شاشة هاتفه الـمَحمول أَو شاشة الكومـﭙـيوتر) ولَـمْلَـمَـها بتُـؤَدَة ورتَّبها واحتفظَ بها.
للكتابات على الورَق أَرجٌ آخَـرُ بين العاشقَين: التأَنِّـي في الكتابة، مراجعة الرسالة قبل إِرسالها، الحرص على التعبير بالكلمات الكاملة، لهفة انتظار الجواب وما في هذه الانتظار من تأْجيج اللَهَب الـمُقدَّس الذي يَزيد الحبَّ عصفًا ووَلَعَ الحبِّ تـوَلُّـهًا، ما يُبقي للرسائل عمرًا مضيئًا مستمرًّا فلا يعودُ ومضًا عابرًا ينطفئُ مع انطفاء الشاشة الإِلكترونيَّة. وإِذا تَسَنَّـى للكتابات الورَقيَّة قدَرُ الاحتفاظِ بها ونشْرِها لاحقًا (ويا سعدَها!)، ستَـجد طريقَها إِلى مكتبةٍ جامعيَّة أَو مركز تراث، فتكون محفوظة حتى يصارَ إِلى نشْرها (رسائل جولـيـيـت درُوْوِيه إِلى ﭬـيكتور هوغو أَو ماري هاسكل Haskell إِلى جبران، وشبيهاتِها).
صحيحٌ أَنَّ سرعةَ التواصل والاتصال اليوم تسهِّلُ بلوغَ اللحظة الفوريَّة بين العاشقَين، لكنها لحظةُ ثلجٍ سرعانَ ما تذوب فتَغيبُ من حضور الذاكرة، بينما الكتابة الورقيَّة تَـحفظ حرارةَ الوهج بين العاشقَين، وتُبقي اللحظةَ حاضرةً في الذاكرة بنضارةٍ دائِمةٍ أَمام تمثالٍ من مرمرٍ تنبُض فيه الحياة حالَـما يَـمَسُّهُ بَـرقٌ من لُـهاث الحبيبة أَو ومضٌ من لهفة العاشق.
هو الحبُّ، ديمومتُهُ باثنَين: صدقُهُ، والتقاطُ هُنَيهاتِهِ في دفْءِ الكَلمات.
هـنـري زغـيـب