تسميةُ بيت إِمِلي نصرالله في الكفَير “بيت طيُور أَيلول” ليست تخليدًا حجارةَ البيت ومحيطَه ودروبَه، ولا الكاتبةَ التي خلودُها ساطعٌ في مؤَلفاتها الساطعة، بل توظيفٌ ذكيٌّ لــ”الـمكان” بِـجعْله مكتبةً عامةً متخصِّصةً في أَدب المهجر، والمهجر موضوع “طيور أَيلول”.
المكان، قلتُ، ولعلَّ إِمِلي بـــ”المكان” (عنوان كتابها الأَخير) شاءَت تَـجعلُ المكانَ دائمَ النبض مُشْرقًا بعد غُروب العمر.
هذا الباب إِلى بُستان الأَدب يأْخذُني إِلى مناراتٍ فيه، بعضُها مُطفَأٌ والآخَر محجوبٌ بالإِهمال. فليس مفيدًا إِنشاءُ “متحف” للأَديب إِن لم يكن يَـحوي كتبَه ومخطوطاتِه وأَغراضَه الشخصيةَ ومراسلاتِه ووثائقَ أَصليةً تضَعه في زمانه ومحيطه وبيئَته الأَدبية. ولا يكفي وضْعُ بلاطة على بيته تشير إِلى أَنه وُلِدَ فيه أَو رَبِــيَ أَو عاشَ حقْبة من عمره، بل الأَهمُّ تَوظيفُ البيت أَدبيًّا أَو فنيًّا أَو ثقافيًّا، وجعْلُهُ مركزًا ناشطًا تكون زيارتُه مفيدةً، لا مُـجرَّدَ جَولةٍ فيه على حيطانٍ ذاوية وغُرَف خاوية.
المهمُّ تنظيمُ مشاريع ثقافية في البيت تستحضر أَثَرَ صاحبه الغائب وتأْثيرَه في الوسط الإِبداعي اللبناني، وربما العربي والعالمي، فيُصبح هو عنوان بلْدته. أَهمية بشرّي جبران، وفريكة الريحاني، وعين كفاع مارون عبود، وزوق الياس أَبو شبكة ليست فقط بما في بيوتهم من أَوراقٍ ونِــتاجٍ وأَغراض، بل في ما تَقوم به من أَنشطةٍ تستقطب إِلى زيارتها موسميًا مُـحبِّين ومريدين وقادرين ودارِسين، كي تبقى منارةُ المكان هاديةً مراكبَ الراغبين إِلى ميناء الأَدب.
ولو بادَرَت كلُّ بلدية في لبنان إِلى تأْسيس المكان، باستملاكه أَو بتفعيله وتشغيله، لأَمكَن لبنان كلّه، وما أَغناه بِـمُبدعيه، أَن يكون مَـحجَّةَ الأَدب والأُدباء والفن والفنانين.
في هذا السياق، ماذا يفيد الزائرين في عمشيت بيتُ عفيفة كرم، أَو في شحتول بيتُ مي زيادة، أَو في زحلة بيتُ سعيد عقل، أَو في بعلبك بيتُ خليل مطران، أَو في يحشوش بيتُ شكرالله الجر، أَو في بسكنتا بيتُ ميخائيل نعيمة، أَو في المحيدثة بيتُ إِيليا أَبو ماضي، أَو في بيروت بيتُ عمَر الزعني أَو عمَر فاخوري أَو فيروز، أَو في أَنطلياس بيت الأَخَوَين رحباني، أَو بيتُ أَيٍّ من الـمُبدعين اللبنانيين، إِن لم يكُن في البيت تراثُهم، أَو لم يتمَّ توظيفُ البيت وتشغيلُه بِـما يُـحْـيــي صاحبَ البيت ويُبقيه حاضرًا فيه ولو من غياب؟
بعيدًا عن التنظير الـمَجاني بضرورة حفْظ البيت وما فيه للحفاظ على مَن كان فيه، لن تنفعَ بلاطةٌ على جداره، ولا تسميتُه “متحفًا”، إِن لم تكُن له ومنه وفيه وظيفيةٌ ثقافيةٌ ذات أَنشطةٍ استقطابية، كما الحالُ مع معظَم بيوت الـمُبدعين الخالدين في العالم.
الـمُواطنُ العاديُّ يَــنتسب إِلى وطنه. أَما الـمُبْدع فَوَطَـــنُــهُ يَــنْــتَــسِب إِليه.
وعندنا مبْدعون خالدون يَـجعلون لبنان يَـنْـتَـسِـبُ إِليهم.
هـنـري زغـيـب