“نقطة على الحرف” – الحلقة 1377
وسائل “الانفصال” الاجتماعي
إِذاعة “صوت لبنان” – الأَحَــد 16 أَيلول 2018

         في خبرٍ طريفٍ، لكنه بليغُ الدلالة، بَــثَّــتْــهُ هذا الأُسبوع شبكةُ تلـﭭـزيون “دوتْشِه ﭬِــلِــه” الأَلـمانية، شاهدتُ تظاهرةً حاشدةً لم يَقُم بِـها معلِّمون معتصمون ولا عمَّال مُضْربون، بل جمهرةُ أَولادٍ دُون العقد الثاني، حاملين لافتاتٍ داعيةً إِلى تحقيق مطلبهم.

         وإِذا عادةُ التظاهرات أَن تَتَنَظَّم ضدَّ الدولة أَو ضدَّ مسؤُولين في قطاعٍ خاصٍّ أَو عامّ، فتلك التظاهرةُ في مدينة هَـمْبُـرْغ الأَلـمانية نظَّمها أَولادٌ ضدَّ أَهاليهم الغارقين في استخدام هواتفهم الـخَلَوية مُهْمِلين واجباتهم تجاه عائلتهم. وكان بين اللافتات واحدةٌ عليها عبارة: “تهتمُّون لهواتفكم الخَلَوية أَكثر مما تهتمُّون بنا”، وأُخرى: “إِلعَبوا معنا لا بالهاتف الـخَلَوي”. ووقفَ بين الأَولاد الصبيُّ إِميل ذو السنوات السبع فأَلقى خطابًا مكتوبًا قال فيه: “يا أَهالينا انتبِهوا إِلينا قبل أَن تصرفوا وقتَكم في التركيز على أَجهزتكم الـخَلَوية. إِن استخدامَكم الـمُفْرِطَ إِياها يسبِّب مشاكلَ سلوكيةً عند الأَولاد، والتذمُّرَ عند الأَهل، والإِحباطَ عند الأَبناء”.

         ومن هَـمْبُرغ الأَلـمانية إِلى الـهامبُرغات اللبنانية، وهي ليست بِأَفضل. فهذا الـجهاز بين أَيدي اللبنانيين بات جهازَ تنفُّس يحملونه قبل مفاتيحهم وقبل أَغراضهم وقبل كُتُبهم وقبل نُقودهم وقبل أَطباق الطعام، لا غنى لهم عنه ثانيةً واحدة، لا يتنفسُّون بدونه ثانيةً واحدة، لا يتنقَّلون بدونه ثانيةً واحدة، بل لا يعيشون بدونه ثانيةً واحدة.

         ومع عظيم الـخدمة التي يؤَدِّيها هذا الـجهاز الـمحمول النقَّال في اختصار الوقت وتسهيل التعامُل وأَداء وظائفَ نَصِّيةٍ وسمعيةٍ وصُوَريةٍ وفِلْميَّةٍ ضروريةٍ عند حاجتها، بات في مُـجتمعنا إِدمانًا “موبايليًّا” أَين منه الإِدمان على التدخين أَو الـمقامرة أَو أَشنعِ العادات الاجتماعية والأَخلاقية.

         ولا يكتفي حاملوه وحاملاته باستخدامه في جلساتهم أَو تركيزهم، بل في السيارة أَثناءَ القيادة، وفي الـمَصعد ولو طبقةً واحدةً، وفي الـمقهى بدون انقطاع، وفي غُـرَف الصف على غفْلةٍ من الـمُدرِّس أَو حتى أَمامه، وفي صالات السينما والـمسرح، وربما سرًّا في بعض أَماكن العبادة، حتى بات هذا الـجهاز أَلصقَ بِـجِلْد الإِنسان من جِلْده ذاته.

         ولم يَعُدْ مقْتَصِرًا على حَـمْله أَو التكلُّم به، بل بات معظمَ الوقت لَوحًا مصغَّــرًا للكتابة عليه أَثناءَ القيادة أَو الـمشْي أَو الطعام أَو الـحديث، فهو شغْلُ الأَصابعِ الدائمُ أَكثرَ مـما كان شُغْل الأُذُن التي تُصغي. وهكذا انقلب من وسيلةِ اتصال فردي إِلى وسيلة انفصال اجتماعي.

         وما قاله الصبيُّ الأَلـماني إِميل وما شاهدتُهُ في الـخبَر التلـﭭـزيوني عن تَلَهّي “الست الوالدة” بالـهاتف فيما هي تُرضِع طفلها أَو تُطْعِمُهُ، وعن تَلَهِّي “السيِّد الوالد” بالـهاتف الـخَلَوي أَمام ابنِه الذي يَدْرس، وعن الوالدة التي تَتْرُك طفلَها أَو طفلتَها مع الـمربِّـيَـة لأَنها مشغولةٌ في الغرفة الثانية بالـمُهاتفة الـخَلَوية، دليلٌ بسيطٌ من إِشارات لا تُـحصى عن هذا الـجهاز الذي أَقلُّ أَخطارِ استعماله إِبَّان قيادة السيارة – مهاتَفةً أَو كتابةً نَصِّيَّة – بلوغُ الـموت قبْل بلوغ الـمَكان. ولن ينفعَنا صدورُ قانونٍ يَـمنعُ استخدامَه أَثناء القيادة، إِذا لم ينفع خطرُهُ في لَـجْمِ رعونةٍ هوجاءَ يُغري بِـها هذا الـجهازُ الذي في داخله ينتظر الـموتُ ضحيَّته قبل أَن يَبْلغ الصوتُ الطرفَ الآخَرَ من السَمَاع.

هـنـري زغـيـب

email@old.henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib