سنة 1939 نشرَت مَـجلة “هارْﭘـــِـر” النيويوركية دراسةً للباحث التربوي في جامعة ﭘــرنستون أَبراهام فْــلِــكْــسْــنِــر (1866-1959) عنوانها: “جَدوى الثقافة اللامُـجدية” قَدَّر فيها “استمرارَ الكثيرين في اطِّلاب الجمال والآداب والفنون، وهذا العصر تُـحاصره أَحقادٌ وشُرورٌ ومُـمارساتٌ تُـهدِّد حضارةَ الإِنسان”.
هذا المبدأُ استعادَهُ أُستاذُ الفلسفة حاليًّا في جامعة كالابريا الـباحث الإِيطالي نوتْشِيو أُورْدِن (60 سنة) في كتابه “جدوى اللامُـجدي” رافضًا فكرةَ أَنَّ “الـمُفيدَ مادِّيًّا هو وحدَه الـمُجْدي في أَزمنة الأَزمات”، ومركِّزًا على “ثقافاتٍ هي غايةٌ بِـذَاتها، مَـجَّانيةٌ بطبيعتها، متجردةٌ، بعيدةٌ عن كل وسيلةٍ تجاريةٍ وحاجةٍ يوميةٍ مباشرة، لكنَّ تأْثيرَها أَساسيٌّ على تنشئة الفكْر ورفْع مستوى الـمَدنيَّات اليوميةِ خصوصًا والحضارةِ الإِنسانية عمومًا”. وهو يرفضُ اقتصارَ المدارس والجامعات على تقديم الـموادّ ذات الفائدة الـمباشرة لأَسواق العمل ولأَهداف وغايات اقتصادية فقط، وتُشيح عن الاهتمام بِـمراكز الأَبْـحاث والـمُختبرات والـمتاحف وفائدتها الـجُلّى في تنصيع الـمَهارات الإِنسانية والعلمية، وأَثرها في الإِبقاء على حياة اللغات والذاكرة والتعليم والبحث التاريخي والتراثي والفنون والآداب والفكْر الفلسفي وسائر مكوِّنات الحضارة التي تُوسِّـع أُفق كلِّ نشاطٍ إِنسانـيٍّ مفيد”.
في رأْس ما يركِّز عليه أُورْدِن من جدوى: الآدابُ والفنون، وهي التي يَــنْعَــتُـها العصرُ اليوم بــ”اللامُـجْدية مَردودًا ماديًّا”. ويستشهد بـمقطعٍ لأُوجين إِيونسكو في كتاب مذكراته: “إِنسانُ الـمدنـيَّـة الـمعاصرة مستعجلٌ، لاهثٌ، سجينُ حاجاتٍ لا وقت لديه إِلّا لها، لا يعي أَنَّ ما يراه لامُـجديًا هو أَجدى الجدوى. فشعبٌ لا يرى جدوى ما يراه لامُـجديًا، لن يَفهَم الفنون ولن يتذوَّقَها ولن يُقدِّر عظيمَ جدواها عليه. وبلادٌ لا تقدِّر الفنون، هي بلادُ عبيدٍ وناسٍ آليِّــين بلا شعور، بلادُ بؤَساء لا يَضْحكون، بلادٌ بدون روح، لا بسمةَ فيها ولا مَرَح ولا فَـرَح، يَنْهَشُها الغضبُ القاتل ويقضي عليها الـحقدُ الـمُدمِّر”.
بدأْتُ بهذه المعلومات عند سوانا كي أَصل إِلى ما عندَنا من تَصَحُّرٍ فكْريّ وفنيّ وأَدبيّ لدى معظم مؤَسساتنا التربوية التي تُـهَمِّشُ تدريس الآداب والفنون، ويبلغُ الضرَرُ معظمَ مؤَسسات التعليم العالي فَتَتَقَلَّص فيها تباعًا صفوفُ الفنون والآداب ويتناقَصُ الطلاب مُريدوها، معتبرينَها “لا مُـجديةً في سوق العمل”، لذا يَلْهفون أَعدادًا متزايدةً إِلى صفوف العلوم والتكنولوجيا واختصاصاتٍ ذاتِ أَهداف تُؤَمِّن لهم سريعًا دخولَ عالَـمها العمَليّ الـمهنـيّ ومردودَه الـمادي.
ومن المؤَسسات التربوية إِلى مؤَسسات التعليم العالي فإِلى الـمجتمع الأَوسع الذي يُشيح عن “اللامُـجدي” فيتخرَّجُ إِليه متعلِّمون غيرُ مثقَّفين، حاملين شهاداتِ اختصاص تُؤَمِّن لهم راتبًا آخِرَ الشهر لكنها تُبْقيهم أُمِّـــيِّــين جهلةً أَسرى وظائفهم، منكَـبِّين ملهوفين بَــبَّـغاويًّا على لقمة العيش القريبة، جاهلين أَنَّ الحياة ليست وظيفةً في حياةٍ نباتيةٍ ماديةٍ بل ثقافةٌ ملوَّنةٌ إِن لم تُــفِـدْ مباشرَةً وظيفتَهم الفردية فهي تَـجعلهم مُـجتمعًا مُـجْديًا متطوِّرًا يستحقُّ الحياة.
هـنـري زغـيـب
www.facebook.com/poethenrizoghaib