… وما دامت مبارياتُ المونديال قائمةً، نبقى في تردُّدات المونديال.
قبل أَيام، فاز فريقُ اليابان على فريق كولومبيا في مباراة قاسية مهَّدَت للفريق الياباني مواصلةَ تأَهُّله إِلى الدور الثاني في المونديال.
وما إِن أَعلن الحَكَم فوزَ الفريق، حتى بادر الـمناصرون الـمُشجعون اليابانيون إِلى حَـمْل أَكياسٍ كبيرةٍ زرقاءَ وراحوا يتنقَّلون بها بين مقاعد المشاهدين، يلمُّون بقايا الأَوراق وعُلَبَ التنَك الفارغةَ وبقايا الصحون والأَطعمة وسائِــرَ النُفايات الباقية على مقاعد المشجِّعين وتحت أَقدامهم، ويضعُونها مُفْرَزةً في أَكياسٍ: منها للأَوراق، منها للتنَك، ومنها للأَواني الـﭙـلاستيكية، فيما تتباهى متدلِّيةً من أَعناقهم بكل اعتزازٍ بطاقاتُهم الحاملةُ أَسماءَهم وصُوَرَهم.
هذا المشهد (وصلَني قبل أَيام بالــ”يوتيوب”) سمعتُ مُصوِّره الكولومبي يقول للمشجِّعين اليابانيين جامعي النُفايات: “الآن فهمْنا كيف ربِحَ فريقُكُم، فأَنتم معروفون بالنظافة والنظام، والآن فهمْنا مَن هُم اليابانيون كشعبٍ لا كلاعبين وحسْب. أَنتم أَعطيتمُونا أُمثولةً بليغةً لـحياتنا الرياضية والعامَّة”.
من هذا المشهد تتجلّى ثلاث فضائل لليابان كبَلَدٍ: التهذيبُ في التعامُل، الدقةُ في المواعيد، والنظافةُ داخلًا وفي الخارج. وهذه الفضائل هي في حياتهم اليومية من طبيعة تربيتهم ونشْأَتهم وثقافتهم في احترام الذات واحترام السِوى على حدٍّ سواء. من هنا ظاهرةُ الهيراكيري لديهم، وهي الانتحارُ الفردي أَو الجماعي قبل الوقوع في العار، عند اقترافهم ما يَصِمُهم بالعار.
هذا شعبٌ يحترم ذاته أَوَّلًا، فينضبط ذاتيًّا قبل أَن يحترم السوى. وهذه هي “الأُمثولة” كما سَـمَّاها المعلِّق الكولومبي، وكما يسميها كلُّ فردٍ وكلُّ شعبٍ في العالم حَيالَ ما يَتَمَظْهَرُ من الشعب الياباني.
“الأُمثولةُ”… نعم. ومغزى الأُمثولةِ الاتِّعاظُ. ومَن يتَّعظْ يتقدَّمْ، ومن لا يتَّعظُ يحملُ في نشْأَته ومزاولاته الاجتماعية جرثومَة الفوضى التي يَصعُبُ بل يستحيلُ الشفاءُ منها مع تَقَدُّم العمر.
المناصرون المشجِّعون اليابانيون، وبينهم صبايا يابانيات، حين بادروا إِلى لَـمِّ النُفايات من بين المقاعد، لم يكونوا في حاجةِ أَن تضعَ لهم الدولة لافتات “ممنوع رمي النُفايات”، ولا إِلى شرطيّ الأَمن يَزجُر مَن يرمي النُفايات على أَرض الـملعب، ولا إِلى توعية المسؤُولين على رفْع النُفايات قبل أَن تتراكمَ وتُصبحَ عالَّةً على الشوارع والمطامر والمكبات.
الأُمثولة… نعم.
وما أَبْلغَها وأَعْمَقَها وأَسْطَعَها أُمثولةً، أَلَّا ينتظرَ شعبٌ رقابةَ الدولة كي يَعتمدَ التهذيب، وينضبِطَ بالنظافة، ويتحلَّى فرديًّا باحترام النظام والقانون والمواعيد، وغيريًّا باحترام الآخرين تلقائيًّا وعفويًّا وفطريًّا.
إِنَّ شعبًا كهذا، لا يحتاجُ إِلى دولةٍ تَفرض عليه النظام والقانون والتهذيب والنظافة كي يكون أُمثولة.
ذلك أَنه، في حياته الفردية والجماعية معًا هو، في ذاته، هذه الأُمثولة.
هـنـري زغـيـب