لم يعُد جديدًا حديثُنا عن زحمة السير التي تغتال منا يوميًّا ساعاتٍ مطَّاطةً بلا جدوى، على طرقات الساحل ذهابًا إِلى بيروت أَو عودةً منها، في نَزْفٍ يوميٍّ من عمرنا نُهْرِقُهُ وسْط غابة من السيارات لا متنفَّسَ لنا سوى الصبر الرحيم أَو الغضب العميم على دولةٍ لا رؤْيةَ لديها لـحَلّ هذه المعضلة أَو على الأَقل المباشرة بتنفيذ هذا الحل.
سوى أَنَّ لنا في هذه الأَيام تسليةً ترافقُنا طوال الطريق، تُخفّف عنا صبر الرحمة أَو لعنة الزحمة، بفضل موسم الانتخابات الذي يحاصر أَحاديثَنا واهتماماتِنا ومشاهداتِنا وسَماعنا. هذه التسلية هي: قراءةُ الشعارات على صُوَر الـمُرشَّحين، منفردين أَو لوائح، ما يجعلنا ننسى زحمة السير ونتسلى بمتابعة الأَفكار “النيِّرة” والوُعُود “الخيِّرة” تنهال علينا من سطح بناية أَو عمود كهرباء أَو شرفة مبنى أَو حيط مهجور، حتى لتمضي ساعات زحمة السير من دون أَن نشعر. وهذه التسلية في القراءة، عدا تأَمُّلنا في صورة المرشح أو المرشحة والتسابق فيها على الوسامة والنِظرة والأَناقة، تتوزَّع تسليةً على قسمين: القسم الأَول فكرة الشعار، والقسم الآخر طريقة كتابة الشعار.
في القسم الأَول – فكرة الشعار – يتجلَّى “ذكاء” الابتكار في سذاجةٍ مرةً، وفي بداهةٍ مرةً، وفي سُخفٍ مرات، مع أَن في شركات الإِعلانات اختصاصيين في الإِبداع والخلْق واستنباط الفكرة الجديدة في التسويق والترويج لبضاعةٍ هي مرةً غسَّالة ومرةً حذاء ومرةً سيارة ومرةً مرشَّح للانتخابات. لكنّ معظم الأَفكار الانتخابية المطروحة أَمامنا وحولنا للتسلية بقراءتها على جانبَي الطريق في زحمة السير، تتمتَّع بسُخف يجعل الفكرة سطحيةً بديهية كالإِخلاص للوطن، وخدمة المواطن، ومحاربة الفساد، وتنفيذ المشاريع، وترسيخ العيش المشترك، وسواها مما يصلُحُ موضوعًا لعالِـم اجتماعٍ يستخلص منه مستوى الخفَّة في طروحات المرشَّحين، أَو الاستخفافَ بعقول السُذّج البُسطاء من المواطنين.
وفي القسم الآخر – طريقة كتابة الشعار – تتجلى “عبقرية” واضع النص باعتماد المحكيّة مكتوبةً، وَفقًا للمبدإِ السخيف الأَرعن “أُكتُب كما تلفِظ”، وهنا تعتير التعتير في قراءة كلمات غريبة هجينة مستنكَرة تطيح القاف إِلى همزة، أو تطيح الهاء أَو الميم إِلى أَشكال غريبة من الكلمات يتلفَّظ بها أَبناءُ منطقة من لبنان ولا يفهمُها أَبناء منطقة أُخرى. ولو كان هذا البرنامجُ الإِذاعيُّ تلفزيونيًا لكنت سردْتُ لكم مجموعةً رعناءَ من طريقة كتابة هذه الكلمات الحوشية في الشعارات الانتخابية.
ومع وعْيِنا الملايين التي يدفعها المرشَّح لحملته الإِعلانية الانتخابية على شعاراتٍ تعظيميةٍ تفخيميةٍ مدائحيةٍ كذَّابة، والملايين التي يجنيها أَصحاب اللوحات الإِعلانية الجامدة والمتحركة، أَرى أَنّ الضرر منها واقعٌ على الـمُواطن الذي تُفسِد لديه ذوقَه وثقافتَه ولغتَه، في تَلَوُّثٍ بصَريٍّ قاتلٍ لا يقلُّ ضررًا وموتًا عن السرطان المنبعث من دواخين زوق مكايل أَو معامل شكا أَو مكَبّ النفايات في برج حمود. فالتلوُّثُ قاتلٌ، أَكان في الشَمّ كرائحة الزبائل، أَو في السمْع كَخُطَب الحملات الانتخابية، أَو في النظَر كقراءة شعاراتٍ انتخابيةٍ سخيفةٍ تؤْذي العين والذوق، وتَــبُــوخُ في الشمس، مصيرُها كمصير أَصحابها الأَشاوس أَن ينتهوا صُوَرًا مقهورة على حيطان مهجورة.
هـنـري زغـيـب
www.facebook.com/poethenrizoghaib