هذا “العـفريت“ الـمُسَمّـى “فايسبوك“
من أَزعج ما يصادفُني في المجتمع: أَن ينهمرَ عليَّ في جَلسةٍ مطرُ أَسئلةٍ من أَحد الحاضرين: أَين كُنتَ أَمس؟ أَين تذهب غدًا؟ ماذا تفعل الليلة؟ لِـمَ كان خطُّكَ الـخَلَوي مقفَلًا؟ مع مَن سهرْتَ الليلة الماضية؟ ما كان الطعام؟ عَمَّ تَـحَدَّثْــتُم؟ أَين تسهر الليلة؟ وأُحاول مرةً، مرتين، أَن أَتحمَّل إِزعاج التدخُّل في شُؤُوني الخاصة وحياتي الخاصة وتَنَقُّلاتي الخاصة، دفعًا هذه الحشريةَ البشِعةَ في اختراق يومياتي واغتصاب حميمياتي، لكنني في النهاية أَنفجر غاضبًا بلا رحمةٍ على السائلين، أَو أَمتنع عن زيارتِهم أَو البقاءِ في مجالسهم.
على أَنّ هذا لم يَعُد ناجعًا كلَّ مرة، سواءٌ في المجالس الخاصة أَو العامة، بسبب الـ”فايسبوك” الذي يَخترق خصوصياتِنا بِلا استـئْذان، ويغتصب حميمياتِنا بلا حياء، ويَنشُر على صفحاته الثرثارة حديثًا تعتبره أَنتَ شخصيًّا فينتشر في الناس، أَو كلامًا تَاْتَـمنُه على أَحدٍ فَيَصِل إِلى هاتف كلّ أَحد، أَو تكون في جلسة مسترخيًا مرتاحًا مطمئنًّا غيرَ مستعدٍّ نفسيًّا أَو هنداميًّا أَو اجتماعيًّا إِلَّا لهذه الجلسة، فإِذا حضرتُك بعد أَقلَّ من ساعةٍ موزَّعٌ بالصوت والصورة على مئات الهواتف بكل استرخائِكَ وانشراحِكَ وحديـــثِكَ الخاص، وإِذا الناسُ يتناقلون حديثَكَ وينتقدون انشراحَكَ ويتغامزون على استرخائِكَ، بِـَلغْطٍ عليكَ، أَنتَ في غنًى عنه كي تظلَّ مُـحافظًا على صورَتِكَ بين الناس.
وقد تقول كلمةَ مُجاملةٍ لأَحد، أَو تكتُب كلمةً مهذَّبةً في شَأْنٍ تعتَبرُهُ شخصيًّا، فإِذا كلماتُكَ تنتقل بِـخَطِّكَ أَو عن لسانِكَ أَو بِصوتِكَ إِلى آلاف الــ”فايسبوكيّين”، وأَنتَ لا ترغبُ في توجيه ما تقولُه إِلَّا لصاحب العلاقة.
لذلك بتُّ في المجالس العامة أَعتذِر من الكثيرين عن الْتقاط الصُوَر معهم بدون استعدادٍ هنداميّ أَو اجتماعيّ، كي لا أَرى بعدَ ساعاتٍ صورتي مع مجموعةِ صُوَرٍ أُخرى ذاتِ تعليقاتٍ خاصة أَو ساذجة أَو كاريكاتورية أَو ساخرة أَو مُهَزِّئـة، وأَنا في غِنًى عن كل هذا الوسَط الذي بتُّ أَتَـجنَّب الحضورَ فيه كي لا يَـخترِقَ إِرادتي فيُحضِرَني علنًا على سطوح الناس ومناشر غسيلهم، وتسقطُ الحرّية الشخصية أَمام هذا الــ”فايسبوك” الذي يَحشُرُكَ كالديكور الزائِد أَو كالكومـﭙـارس الثانوي بين صُوَرٍ يتبادلُها الناس عن تَـحرُّكاتهم اليومية وَوَلائِمِهِم الإِخوانية ومناسباتِهم العائلية وأَخبارِهم الشخصية وحفلاتِهم البيتية وتعليقاتِهم السطحية، فَتَنْحَشِرُ أَنتَ بينها مُهَمَّشًا رُغمًا عنك.
إِنه اختراق الخصوصية في الأَماكن العامة من دون استِـئْذانِك، حتى تضطرَّ إِلى الاحتفاظ برأْيِك أَو التزام الصمت أَو احتساب كل حركةٍ أَو لفتةٍ لشعورِكَ أَنّ بين الحاضرين دائمًا مَن يُسَجِّل أَو يُصَورُ أَو يلتقطُ ويَرميك فورًا بدون استِـئْذانكَ على هواتف الآلاف بما لا تَرغبُه ولا تُريدُه ولا تَسعى إِليه.
إِن للـ”فايسبوك” أَخلاقًا للتعاطي معه في المجالس العامة، تَماماً كالتعاطي مع الهاتف الـخَلَويّ، تَـخابُـرًا أَو تَلَقِّي مُـخابَرة، كي لا نسبِّبَ إِزعاجًا للآخرين، وكي لا نَخترقَ خُصُوصياتِهم بما لا نريدُهم أَن يَخترقُوا خصوصياتِنا ويَنشُرُوها لا على صنوبر بيروت بل على سطوح هواتفهم الْـخَلَوية فنصبحُ حديث الناس يتناقلون أَخبارنا من فَمٍ إِلى فَمٍ ومن أُذُنٍ إِلى أُذُنٍ، فتَشيعُ شائعاتٌ، وتُروى أَخبارٌ، وتُحكى رواياتٌ، كثيرًا ما تُسيْءُ إِلى أَصحابها، وقد تُؤْذي أَكثر فَــتُسبِّبُ خَرابَ بُيُوت الناس أَو تَهديمَ صورتهم بين الناس، كما يَفعل غالبًا هذا العِفْريت الـمُسمَّى الـ”فايسبوك”.
هـنـري زغـيـب
www.henrizoghaib.com