“نقطة على الحرف” – الحلقة 1351
بين الوقت الهارب و الوقت الغارب
إِذاعة “صوت لبنان” – الأَحَــد 11 آذار 2018

بين الوقت الهارب و الوقت الغارب

         ما عجزَت عن فرْضه قَسْرًا سنوات الحرب في لبنان، نجحَت في فرْضه قَهْرًا زحمةُ السير. فطيلة السنوات المالحة (1975-1990) تفسخَت أَوصالُ لبنان وشرايـينُه فلزمَت كلُّ مجموعة في الوطن بقعتَها الضئيلة وتحوّل لبنان إِلى “غيتو” كبير بحدودٍ مفروضة غير معروضة. وتجزَّأَت الدوائر الرسمية والجامعات إِلى فروعٍ في المناطق لصعوبة التنقُّل بين أَرجاء الوطن. وبيروت، الغالية بيروت، الحبيبة بيروت، نجمتُنا بيروت، قسَّمتْها الحرب العاهرة إِلى “شرقية” و”غربية” يشطُرها خطُّ تَـمَاسٍّ يحظِّر على مَن في رئتها الأُولى أَن ينتقلوا إِلى رئتها الأُخرى.

         وحتى في أُويقات الهدنة والهدوء، كان اللبناني يفضّل البقاء داخل الــ”غيتو” الذي هو فيه، لصعوبة التنقُّلات وأَخطارها من قنْص وقصف، وحواجزَ طيارة وحواجز ثابتة وحواجز طائفية وحواجز مذهبية وحواجز حزبية، وقراصنةٍ مسعورين على كل حاجز، حتى كان اللبناني يَحسب أَلف حساب قبل أَن ينتقل ولو إِلى عمله أَو إِلى اضطراراته المعيشية.

         ما سبب إِثارة هذا الموضوع اليوم بعد ربع قرنٍ على انقضائه؟ السببُ هذه الزحمةُ القاتلةُ الأَعصابَ القارضةُ الساعاتِ الناهشةُ الأَيامَ  المغتالةُ العمرَ على الطرقات، ساحلًا على الأَخص، حتى بات اللبناني يفضل التزامَ بيته ومحيطه ومنطقته ويحسَب أَلف حساب وحساب عند اضطراره إِلى التنقُّل على هذا الزاروب المسمّى زورًا على أَنه “أُوتوستراد” وهو ليس أَكثر من بولـﭭـار أَو شارع طويل، عن جانبيه مشكوكةٌ دكاكينُ البوظة والسجائر وبسطاتُ الخُضَر والفواكه ومحالُّ الكعك والأَفران والمطاعم، وأَمامها مواقفُ السيارات منشرحةُ الصدر لاستقبال “الزبائن الكرام” على حساب مساحة مستريحة من الأُوتوستراد ولو سبَّب وقوفُهم زحمةَ سير لا تتوقَّف 25 ساعة في اليوم. أَما رجالُ شرطة السير فأَندَرُ من الصدق في كلام السياسيين: منهم من يتسلَّى بجهازه الـخَلَوي، منهم من يلتهم رغيف فلافل من المحلّ المفروض أَنه يمنعُ وقوفَ السيارات أَمامه، ومنهم من يتفيَّأُ حائطًا يقيه هطولَ أَشعّة الشمس وحُرقةَ رذاذ المطر.

         والنتيجة؟ جلجلةٌ يومية وأَفخاخ على طول الطريق بين حُفَرٍ ومطبّات وأَشغال وحافلاتٍ وقِحة يقودها رعناءُ وقحون، وغابةُ حديدٍ هائلةٌ من سياراتٍ لا يجد سائقوها الوقت المناسب لاقتناص وقتٍ بين الوقت كي يصلوا إِلى مقاصدهم على الوقت.

         هكذا زحمةُ السير قسَّمت لبنان الساحل إِلى “غيتُوات” ديموغرافية، فبات الكثيرون يخفّفون من قصدهم بيروتَ أَو ضواحيها، كي لا ينصلبوا على قارعة هذا المسخ المسمى “الأُوتوستراد” وهو ليس أَكثر من زاروب. ففي جميع أَسفاري لم أَجد أَيَّ أُوتوستراد عن جانبَيه دكاكين بوظة وسجائر وبسطاتُ خُضَر وفواكه ومحالُّ كعك وأَفران ومطاعم وسوﭘــر ماركات.

         ومثلما سنواتُ الحرب في لبنان قصَفت أَعمار الكثيرين من اللبنانيين قسرًا، هكذا زحمةُ السير تقصِف اليوم أَعمارهم قهرًا على هدر الوقت والعمر في أَيّ وقت من النهار والليل، حتى بات اللبناني يفتّش عن وقتٍ هاربٍ بين الوقتِ الغارب كي يتنقَّل من دون هذه الجلجلة الشرسة على أُوتوستراد الساحل، وليس ما يسلّي انزرابَه المشؤُوم في سيارته إِلَّا صورٌ عَرْضْحَالية شوساء وعباراتٌ كاريكاتوريةٌ شمطاء لحضرة المرشَّحين على الانتخابات، المتنافسين لا على مصلحة الوطن بل على وُعُود ناخبيهم بأَن “يَشيلوا الزير من البير” بدءًا من 7 أَيار 2018.

هـنـري زغـيـب

email@old.henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib