لا البصر الكفيف بل البصيرة العمياء
في العدد 100 (تاريخ 6/12/1990) من “الجريدة الرسمية الفرنسية” نصُّ تقريرٍ كان رفعَه إِلى “المجلس الأَعلى للُّغة الفرنسية” (في 19/6/1990) الأَمينُ العام للأَكاديميا الفرنسية الكاتب موريس درُيُون حول “تنقيح كتابة الإِملاء” موجِّهًا إِياه إِلى رئيس الحكومة ميشال روكار الذي كان حاضرًا وأَجابه موافقًا وناقلًا إِليه “تهنئة رئيس الجمهورية فرنسوا ميتّران الـمُهتم بأَعمال المجلس والأَكاديميا لأَن له تعلُّقًا خاصًّا بلُغتنا التي هي هوية بلادنا والفرنكوفونيا”.
ها نحن إِذًا حَيال لغةٍ يحرَص عليها رئيسُ جمهوريةٍ، يُتابعها رئيسُ حكومةٍ، يتولَّاها مجلسٌ أَعلى مخصَّصٌ لها، ويعرض حلولَها أَديبٌ كبير هو الأَمينُ العامُّ لأَكاديميا ما زالت (منذ تأْسيسها قبل 383 سنة) ناذرةً جهودَها لخدمة اللغة الفرنسية وتطويرها.
إِلى هذه الدرجة من أَعلى سلَّم المسؤُوليات الرسمية استاهلَت الفرنسيةُ أَن تحظى بالاهتمام. وهي ليست كذلك لـمجرّد أَنها لغةٌ للخطابة والكتابة، بل لأَنها بنتُ العقل، والعقل أَبو المنطق، ولأَنها حصيلةُ أَجيالٍ متوالية من الصقْل والـمِراس، ولا بُدّ من تجديدها في كل حقبة، وتطويرها الـمتواصل كي تبقى ابنة عصرها فلا يتجنَّبها أَبناؤُها مُشيحين عنها إِلى لغة أُخرى أَكثر عصريَّةً وحداثة.
الكتابةُ في لغة أُخرى غير لُغتِنا الأُمّ، أَبدع فيها لبنانيون في طليعتهم جبران وجورج شحادة وأَمين معلوف وصلاح ستيتيّه، أَعلامٌ ثَــبَّــتُــوا أَهمية التعدُّدية اللغوية في الأَدب. أَما استخداماتها الشفوية اليومية بــ”استعارة” كلماتٍ من لغات أُخرى في الجملة الواحدة فتأْخذ اللغة الأُمّ إِلى خطر الانطواء فالاندثار إِن لم نتدارَك بتسهيل إِيصالها إِلى أَبنائها، وتجنيبِهم الوقوعَ في عقدة النقص تجاه اللغة الأُم عبْر تناوُل كلمات من لغة أَجنبية يتناولونها من مخزون ثقافتهم الاجتماعية والأَكاديمية، فيقعون في لغة هجينة لم تعُد لغتَهم الأُمّ ولا بلغَت لغة الآخرين. وهذا دليل جهلهم مخزونًا في لغتنا كبيرًا واسعًا يُغنينا عن “استعارة” قاموس آخر للتعبير الشفويّ اليومي.
وقياسًا على تقرير “المجلس الأَعلى للُّغة الفرنسية” (وفيه تعديلُ 2400 كلمة لتسهيل الكتابات الإِملائية) نتساءل: لماذا لا توضَعُ للعربية دراساتٌ ميدانية تُـحلِّل مكامن الصعوبة في لفظها وكتابتها (كما أَخيرًا أَظهر اختبارٌ على عيِّنات من تلامذة مرحلة التعليم الأَساسي في مناطقَ مختلفةٍ من لبنان) فَــتَــتَــشكَّل عندئذٍ حلولٌ تعالج مشاكلَ مزمنةً يعاني منها مستخدمو اللغة (التلامذة خصوصًا) ككتابة الهمزة، والتذكير والتأْنيث في الأَعداد الـمُركَّبة، وعلامات الرفع والنصب والجر للمثنّى والجمع، وسواها الكثير.
بهذه الـمُعالجة يرفع اللغويون خطر كتابة العربية بأَحرف لاتينية (كالحاصل حاليًّا في التواصل الاجتماعي) ويتداركون انحسارًا خطيرًا في استخدام اللغة الأُمّ بحجة أَنـها صعبة التداول.
اللغةُ الأُمُّ: لسانٌ وهويةٌ ووطن، وفوضى التداوُل بها انتهاكٌ ضوابطَ العقل والمنطق. وهنا يتربَّص الخطر.
هـنـري زغـيـب