“أَزرار” – الحلقة 1026
مِنَصَّاتٌ مسؤُولةٌ لِنشْر الفكر والتوعية
“النهار”  –  السبت 3 شباط 2018

فضاء  افتراضِيٌّ  لتـثـقـيـفٍ غــيرِ افتراضِيّ

         سنة 1984 تأَسسَت في نيويورك المنظمة الإِعلامية العالمية “تيد” (TED) “للتكنولوجيا والترفيه والفنون” وشعارُها “الأَفكار الجديرة بالنشر”. وهي تدأَبُ منذ ثُلث قرنٍ في الحفاظ على مستواها العالي المسؤُول باستقبال مَن هم “جديرون” باستضافتهم إِلى مسرحها الخاص بحضور جمهورٍ معنـيٍّ، في لقاءٍ دوريٍّ لا يتاح لهم فيه إِلَّا 18 دقيقة لــ”عرض أَفكارهم”، ثم يروح المحاورون يناقشونهم طيلة اللقاء.

         ومنذ 2006 بات اللقاء متاحًا على الإِنترنت، ويستقطب زوارًا ومتابعين يزدادون عامًا بعد عام. بين أَبرز الضيوف: بِلْ كلنتون، بِلْ غيتس، عدد من حائزي جوائز نوبل، وأُدباء مثل الكاتبة التركية إِليف شافاك (Elif Şafak) التي استضافتها منصة “تيد” ومنها انطلقت إِلى العالمية الواسعة، وروايتُها الأَخيرة “بناتُ حَواء الثلاث” تُسجّل مبيعات خيالية منذ صُدورها في نيويورك قبل أَسابيع.

         الشاهد من كلامي: المنصة المتاحة “المسؤُولة” وعدم إِتاحتها إِلَّا لـمَن لديهم جديدٌ يقولونه أَو يقدّمونه من خبرتهم الحياتية أَو مسيرتهم المهنية.

هذا الفضاء الافتراضيُّ الواسع اللامتناهي، يدخله ملايين الناس حول العالم وسيلةَ تثَقُّف مفيدةً وفاعلةً في المجتمع، كل مجتمع. بين آخر ما شاهدتُ من حلقات “تيد”: لقاءٌ مع الكاتب البريطاني كِن روبنسون (Ken Robinson) صاحب كتاب “كيف تكون مُـبْـدِعًا”، تحدَّث فيه عن محورٍ عنوانُهُ: “هل المدارس تَقتُل الإِبداع؟” فجاء بأَفكار تثقيفية مبتكَرة حول ضرورة أَن يتأَقلمَ النظام التربوي حتى يتكيّف مع إِبداع التلامذة ورعاية مواهبهم وتطوير أَفكارهم الخلَّاقة. وفي رصيد روبنسون حاليًا نحو 50 مليون متابع ومشاهد.

         هنا نحن إِذًا: استخدامُ الفضاء الافتراضي للغايات المعرفية والتثقيفية، ضمن ضوابط وازعة لا تعتمد الحرية المفْرطة بل تحدِّدها مسؤُوليةُ التفكير والتعبير فتُساهم في التوعية العامة، وتكون ذات تأْثير فاعل إِيجابي. وهنا فائدة المنصات الفكرية لدى المواقع الإِلكترونية المسؤُولة في نشْر العلوم والفنون والأَفكار البنَّاءة، فلسفةَ حياةٍ مثمرةً مفيدةً تُسهم في الوعي المجتمعي الخلّاق بنشْر قيمٍ ومبادئَ ومضامينَ تؤَسس لجيل مقبل ثقيف، وتواصل رسالة الجيل الحاضر المسؤُول في نقل التوعية إِلى الجيل المقبل.

         دور هذه المنصات المسؤُولة أَن تُبرز تأْثير الفرد على الجماعة، من أَجل تطوير الفرد وتاليًا تطوير المجتمع، خصوصًا بعد انتقال الوسيلة التثقيفية من القاعة المحدودة –  كما في حلقات “تيد” بين الضيوف وجمهورهم في الصالة – إِلى انتشارها على شبكة الإِنترنت في الفضاء الافتراضي الأَرحب (“يوتيوب” أَو ما يشابهها من وسائط) فتَتَعَمَّم الفائدة ويَعُـمُّ التأْثير.

         وسائل التواصل الاجتماعي، على تنوُّعها ووسائِطها، ومعها المواقع الإِلكترونية، لا قيمة لها في مجتمعها إِلَّا ضمن ضوابط المسؤُولية ونقْل المعرفة، وإِلَّا فهي هدَّامةٌ تبُثُّ الأَخطاء والخطايا فتزيد من تَـخَلُّف المجتمع وإِفساد أَجياله.

هـنـري  زغـيـب

email@old.henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib