الكتابُ هو المَصدَر، هو الأَصل، هو اليُنبوع
بهذه المقولة من عقْلٍ أُحبُّ، أَفتتح اليوم حديثي عن الكتاب، ونحن في الأَيّام الأُولى من معرض الكتاب، هذا العرس الثقافي السنويّ الذي تشهده بيروت كلّ مطلع كانون، وقبله شهدت عرسًا آخَرَ في معرض الكتاب الفرنسي.
أَقول “الكتاب”، وينشرح قلبي. أَقول “الكتاب” وأَشعر بالعافية. أَقول “الكتاب” وأَشتَــمُّ عطر الكلمات يضوع من بين دفَّتين.
أَقول “الكتاب” وأَرى حركةَ الناشرين رعاةِ الكتاب، وأَرى حركيّةَ المؤَلّفين آباءِ الكتاب، وأَرى تَـحَــرُّكَ القراءِ قاطفي الكتاب، وجميعهم يتخاصرون تكريمًا للبحث عن الكتاب المطبوع على ورقٍ لم يفقِد ولن يفقِد دوره الرئيس في إِهداء الكلمات إِلى متلقّيها في أَبهى حُــلَّــةٍ وأَزهى اقتبال، ما يجعل الكتاب عابرًا عصُورَ التقدُّم التكنولوجي أَيًّا يكن قفْزُ هذا التقدُّم من سنةٍ إِلى أُخرى ومن زمنٍ إِلى آخَر.
في تحقيقٍ مع القرّاء أَجرتْه جريدة “الفيغارو” بين القراءة الورقية والقراءة الإِلكترونية، نحا قراءٌ إِلى اعتماد الشاشة الافتراضية لقراءة الجريدة أَو الكتاب، ولكنْ، بالرغم من الأَرقام الصافعة عن تدَنِّـي رواجه عامًا بعد عامٍ وارتفاع رواج الكتاب الإِلكتروني، بقي معظمهم على تفضيله الكتابَ الورقي، فأَجابت قارئةٌ: “المصعد الكهربائي موجود منذ عقود، لكنه لم يُلْغِ الدَرَج”، وأَجاب قارئ: “أَمام القراءة على الشاشة يدهمني النعاس أَكثر مما حين أَقرأُ الكتاب بين يدَيّ”، وأَجابت قارئةٌ: “لذة الكتاب استطاعتي أَن أُدوّنَ ملاحظةً على هامش الصفحة أَو أَكتبَ فكرةً حول مقطع أَو أَضعَ خطًّا تحت عباراتٍ أَعجبتْني، وهو ما لا أَستطيعه على الشاشة لكتاب جامدٍ باردِ الصفحات أَمامي لا يعطيني إِلّا ضيقَ مطالعته من دون تدَخُّـلي بين سطوره وصفحاته”.
أَهمية معارض الكتُب أَنها تضع الكتاب الورقيّ في مقدمة الاهتمام للقراءَة والمطالعة والتَــثــقُّف، وتَـحُـثُّ جميع الفئات العمرية وجميع القطاعات الثقافية والأَدبية والعلمية والأَكاديمية والتربوية والعامة على عودتها إِلى الـمصدر، إِلى اليُنبوع، إِلى معانقة اللقاء مع اللغة المكتوبة، اللغة الصحيحة، اللغة السليمة، بعيدًا عن وَبَاء الكتابات الهجينة في لغة هجينة وأَحرف هجينة ولهجاتٍ هجينة تبثُّها استعمالاتٌ هجينة تخترق حياتَنا اليومية على شاشات وسائط تواصل اجتماعي ليس فيه شيْءٌ من التواصل بل فيه الكثير من التفاصل والفصل بين السليم والـمَرَضيّ، بين الصحيح والـمعتل، بين المغذّي والمؤْذي، بين الباني والهادم، مع موجة من الوسائل اليومية في هذَر وهذيانٍ يَسقط فيهما كلُّ من جَرَفَتْهُ الموجة، ولن يخرج منها إِلّا مَن يعود إِلى الأَصل، إِلى اليُنبوع، إِلى سلامة اللغة التي لا يؤَمِّن سلامتَها إِلّا الكتابُ الضابطُ اللغة والكتابة والأُصول، وهذا هو المصدر الذي يجعل القارئَ آمنًا أَمينًا مؤْمنًا بحاضره وَغَدِهِ صوب حقيقةِ الكلمة التي لا تُشْبهها إِلّا… أَحقيةُ الكتاب.
هـنـري زغـيـب