الأُصُول الاجتماعية أَساسُ ضَــبْــطِ التعامُـل مع الآخرين
سمعنا مرارًا، هذا الأُسبوع، عبارة “وَفْقَ الأُصُول”، في الحديث عن وُجُوب تقديم رئيس الحكومة استقالتَه “وَفْق الأُصُول الدستورية”. وهو أَمر شرعيٌّ قانونيّ مُـلْـزِمٌ يَفرض أَن يتّبعَه كلُّ مسؤُولٍ كي ينضبط العمل السياسي والإِداري.
غير أَن لِـمَبدإِ “وَفْقَ الأُصُول” إِلزاماتٍ اجتماعيةً موجِـبَـةً اتِّباعَها لا كي ينضبطَ العمل بل كي ينضبطَ التعامل، وخصوصًا على المستوى الاجتماعي العام.
من هذه الإِلزامات أُصُولُ التخاطُب بين الناس في احترام ومسافةٍ أَخلاقيةٍ بين نبرة الصوت وحسْن الاستماع، وأُصُولُ حسْن معاملة الأَطفال في عدم التعنيف، وأُصُولُ المهاتفة الخَلَوية في الجلسات الخاصة والاجتماعات العامة، وأُصُولُ التقيُّد بأَنظمة السير حرصًا على السلامة الشخصية والغيرية، وأُصُولُ احترامِ غيرِ المدخّنين والامتناعِ عن التدخين في القاعات المقفَلة والمطاعم الضيّقة، وأُصُولُ عدم مقاطعة الآخَـرين وسْط حديثهم أَو كلامهم وانتظارِ نهاية تَـكَـلُّمِهم ثم المبادرةِ بالكلام أَو السُؤَال، وأُصُولُ الإِصغاء إِلى الآخرين بالتركيز على كلامهم دون التلَهّي بالنظر في مكان آخَر أَو بالانشغال في عملٍ يدويٍّ إِبّان كلامِهم، وأُصُولُ الجلوس في المجتمع، رجالًا ونساءً، بتهذيبٍ واحترامٍ لأَن لغة الجسد في المجتمع بَـــيِّـــنَــةٌ واضحةً بقدْر التكلُّم والمحادثة، وأُصُولُ المبادرة بطرح السلام على الآخرين أَو ردِّ التحية، وأُصُولُ مخاطبة الآخرين بدون رفع الكلفة حين الآخرون ليسوا من حلقة الأَصدقاء المقرّبين، وأُصُولُ الوقوف في الصف لدى موظفٍ في عمله أَو لدى صندوق الدفع في مكانٍ تجاري، وأُصُولُ ضبْط الأَعصاب في مواقفَ عادةً تثير الغضَب والانفعال، وأُصُولُ احترام عقائد الآخرين دون التهجُّم عليها أَو دحضها أَو مناقشتها إِحاديًّا بما يولِّد ردودَ فعلٍ استفزازيةً قد تؤَدّي إِلى خصام، … ولا ينتهي تعدادُ هذه المتوجّبات التي تتطلب معرفة الـ”أُصُول” في اتّباعها والتصرُّف بها ومزاولتِها شخصيًّا أَو فرديًّا أَو جَـماعيًّا.
وإِذا كانت للأُصول الإِدارية والسياسية نُــظُــمٌ وقواعدُ مكتوبةٌ أَو متداوَلَةٌ أَو منْصوصٌ عنها في القوانين والدساتير، فليست للأُصول الاجتماعية كتُبٌ محدَّدة أَو نصوصٌ مكتوبةٌ أَو سُــنَــنٌ مُــتَّــبَــعة، إِن هي إِلَّا عاداتٌ اجتماعيةٌ وآدابُ مخاطَبَةٍ وأَدبياتُ سلوكٍ نكتسبها بالتربية البيتية أَو المدرسية أَو الـمُجتمعية، فَــنَــنْــشأُ على أُصُول احترام الذات ثم على احترام السوى، ونتعلَّم كيف نرسم تلقائيًّا حدودَ التعامل والمعاملة والتعلُّم الأَخلاقي، من دون الحاجة إِلى باحثين سوسيولوجيين يحلِّلُونها لنا وينقلونها إِلينا.
جميع هذه الـ”أُصُول” تندرج في كيفية التربية والتنشئة، كي تكبَرَ أَجيالُنا الجديدة على سلوكٍ لا يجدونه في كتب المدرسة بل يكتسبونه من كتب الحياة، وما أَغنى هذه الكتبَ بِـخِـبرةِ أَجيالٍ تَنقُل إِلى أَبنائها وأَحفادها ما لا تَــتَّسع له جميعُ الكتب التربوية والقوانين الموضوعة وسُنَنِ الدساتير وسائر حيثيات الشرائع.
هـنـري زغـيـب
www.henrizoghaib.com