“نقطة على الحرف” – الحلقة 1332
… وليس بالمخالفة وحدها يحيا العدل
إِذاعة “صوت لبنان” – الأَحَــــد  29 تشرين الأَوّل 2017

فَـلْـتَـتَـحَـوَّل عقوبة المخالفين خدمةً للمجتمع

         تطالعُنا وسائل الإِعلام، صباحَ كلِّ يوم، بنشرةٍ تُصدرها “غرفةُ العمليات المشتركة لدى هيئة إِدارة السير” في المديرية العامة لِـقِوى الأَمن الداخلي، تُطْلِعنا بالأَرقام على عدد حوادث السير ومحاضر المخالفات وعدد القتلى والجرحى على طرقاتنا “الموهوبة جدًّا” بحالة العار في بُنْيَتها التحتية وشروط أَمانها.

          القسمُ الكبيرُ من تلك الحوادث وضحاياها ناجمٌ عن السُرعة الزائدة التي، على ما يبدو، لا تنفع فيها مَـحاضر ضبط المخالفات لأَن الـمُخالفين إِما محسوبون لا يدفعون لأَنهم من الأَزلام والأَذناب والمحاسيب، أَو ميسورون يدفعون لأَن قيمة الضبط لا توجعهم مهما كانت مرتفعة.

          إِذًا، هوذا “اللبناني الحبيب” لا يردعه بوليس السير، ولا يأْبه لقانون السير، ولا يطبّق نظام “ممنوع الوقوف”، ولا “ممنوع التجاوز” ولا “ممنوع التدخين” ولا “ممنوع الصيد” ولا “ممنوع المرور”، لأَنه شعب “حَـبُّـوب”، إِحدى هواياته مخالَفَةُ الأَنظمة وارتكابُ العصيان واغتصاب القوانين، مع أَنّ هذا “اللبناني الـحَبُّوب” ذاتَه، بعد متر واحد خارج أَرض “وطنه الحبيب”، ينضبط بأَصغر قانون يفرضه نظامُ الدولة التي يكون فيها.

          والسبب؟ السبب واضح: القانون اللبناني موجودٌ بكل الوعي، لكن تطبيقَه غائب عن الوعي، وأَسهل ما لدى المواطن: دفعُ الغرامة ثم إِعادة المخالفة مجدَّدًا بعد نصف ساعة من الأُولى، لأَن العقوبة المالية وحدها لا تَردَعُهُ.

          يحضرني هنا نموذجان حضاريان: الأَول ذكَرتُه قبل أَسابيع، في هذا البرنامج، وهو فرضُ حاكم دبي على الـمُخالفين عقوبةَ أَن يُكنِّسوا شوارع المدينة طيلة شهر كامل بلباس عُمّال التنظيفات يوميًّا على مرأَى المارّة، والآخر قرأْتُه قبل يومَين وهو قرارُ محكمةٍ في ميلانو ضد رئيس الوزراء الإِيطالي الأَسبق سيلـﭭـيو بِـرلُوسْكُوني الـمُدان بالتهرُّب الضريبي، معاقَبَتُهُ بقضاءِ عامٍ كاملٍ يعمل في خدمة المجتمع، وحدَّدَت له المحكمة تلك الخدمة في مؤَسسةٍ للمعاقين أَو في دارٍ للمُسِنّين.

          وبين أَن يُكَنِّسَ المخالفون الشوارع في دُبي شهرًا كاملًا، وأَن يخدمَ رئيس الوزراء السابقُ المسنين عامًا كاملًا، تتحوَّل العقوبةُ من سجن سلبي لا يُفيد السجين ولا يُفيد المجتمع، إِلى خدمةٍ إيجابيةٍ للمجتمع، لو تطبَّق عندنا لعوقب الـمُخالفون بجمْع النفايات أَو طلاء خطوط الشوارع أَو أَيِّ ما لا تقوم به الدولة لنقصان عديدها أَو لإِهمال واجباتها، فتُصبح العقوبةُ الأَقسى: خدمةً مَدنيةً تُفيد المجتمع ويَرهبها المخالفون فلا يُخالفون، ولا يعودون يستهزِئُون بمحضرِ ضبطٍ أَو بحجز سيارة.

في غياب خدمة العلَم الإِلزامية عندنا، فَلْتَكُن خدمةُ المجتمع عقوبةً يَهابُها المواطن، لأَنها من جهةٍ تُعرِّضه لِـهُزء الآخرين وشماتتهم عوَضَ هُزئِهِ هُو بقوانينِ الدولة وأَنظمتِها، ومن جهة أُخرى يَستفيد المجتمع من خدمة المخالفين فتنفِّذُ الدولةُ بواسطتهم ما لَـم تُنَفِّذْه من خدماتٍ لِـمواطنين هي عوَّدَتهم أَن يكونوا في دولة “كل مين إِيدو إلو”، وأَن يعيشوا أَزلامَ البَيك ومَحاسيبَ الزعيم وقُطعانًا بشرية يُعفيهم سياسيُّوهم من كل عقوبة.

          وإِلَّا… فلنعترفْ عَلَنًا بأَننا في دولةٍ مُواطنوها مُخالفون وسياسيُّوها مُخالفون، وقوانينُها هاجعةٌ في الأَدراج لا يحترمها محترَمون، وعندئذٍ تلزمُها هي دولةٌ أُخرى حازمةٌ تفرض عقوباتٍ على السياسيين قبل المواطنين، دولةٌ صارمةٌ تطبّق القانون بالحزم والحسم والعزم على جعلها دولةً يَسود فيها القانون فعلًا، وليس قولًا بكلامٍ سياسيٍّ خشبيٍّ لا يَردع أَحدًا ولا يؤَثِّر على أَحد.

 هـنـري زغـيـب

email@old.henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib