الـمَشهد الصامت أَبلغُ من كلّ تعبير خشَبـيّ
عبارةُ “صحيح سياسيًّا” (politiquement correct) تعني ما يَذهب الكثيرون إِلى نَـعْـتِـهِ بــ”اللغة الخشبية” (langue de bois)، أَي أَنّ ما يقالُ بعيدٌ عن “الصحيح” لكنه مُغلَّف بـتَـورياتٍ (euphémismes) تعني، سياسيًّا أَو اجتماعيًّا، عكسَ ما يقال. وهذا تلميح لطيف عوض التصريح بأَنه “كلامٌ غير دقيق” (في معرض اتّهامٍ أَو خطاب) كي لا يقال إِنه “كلامٌ كاذِب” أَو “كلامٌ صاحبُهُ كذّاب”. لذا: غيرُ المسموحِ نعتُهُ بالمباشَرة الصادمة يقال إِنه كلامٌ “صحيح سياسيًّا”.
هذا الأَمر لا يَـقتصر على الكلام الصادم وحده، بل قد تكون الصورة صادمةً بتعبيرها الـمباشر القاسي أَكثر من الكلمة، فلا تلطِّفها أَيُّ توريةٍ كلامية. مثالُ ذلك: اضطرارُ مدير غالري في مدينة ووهان الصينية إِلى نزْع صُوَر فوتوغرافية من معرض “هذه هي أَفريقيا”، تعمّد فيها مُصَوِّرُها الصيني “يو هوي ﭘــينغ” وضْعَ صورةِ قردٍ ضاحكٍ إِلى جانب صورةِ ولدٍ أَفريقي بالضحكة ذاتها. واتهمت “نيويورك تايمز” المصوِّر بالعنصرية وبإِذكاء التميـيز العنصري. ولم تكن تلك أَول مرة تُنعَتُ فيها الصين بظاهرةٍ عنصرية، فقبْلذاك أُرغِمَت شركة غسالات على الاعتذار العلني لأَنها صوَّرت إِعلانًا تجاريًّا ظهر فيه رجلٌ أَفريقي يخرج من الغسالة بــملامح صينية.
وعلى ذكْر الأَفارقة، يتجنّب البعض استعمال كلمة “الأَسود” مراعاةً شعورَ الجنس الأَفريقي الداكن البشَرة، فيستبدلونها بكلمة إِيحائية أُخرى تدلّ على اللون من دون أَن تسمّيه. لكن هذه توريةٌ ضعيفةٌ وساذجة، لأَن اللون الأَسود موجود، وهو أَساسي بين الأَلوان، وليس في استعماله أَو ذِكْره ما يُسيْءُ إِلى ذوي البشرة السمراء، فهو رمزٌ سائدٌ للحِداد، وكبار مصمّمي الأَزياء يعتمدونه للأَناقة.
تسمية عامل الزبالة بــ”الزبَّال” لا تعني تحقيره، وتجميلُها بتعبير “مُلَطَّف” لا يُـحسِّن راتبه ولا حياته. الأَساس في الكلمة، أَيِّ كلمة، (“السَواد”، مثلًا) كيفيةُ استعمالها ومدلولُه بلاغيًّا أَو أُسلوبيًّا، فما تعنيه تلميحًا “صحيحٌ سياسيًّا” (أَو “لغة خشبية”)، أَو تصريحًا “سوداوية في المزاج”، أَو “تفكيرًا أَسود” أَو “ظُلمة “سوداء”، بدون أَن يذهب التفكير إِلى تحقير ذوي البشرة الداكنة.
الكلمة في المطلق، معزولة عن سياقها، لا معنى لها. لكنها في سياقها ذاتُ بلاغةٍ لا تعادلها إِلَّا الصورة البليغة الصامتة. وإذا أَبو تمّام أَنبأَنا أَنّ “السيفَ أَصدقُ إِنباءً من الكُتُبِ”، فالصورة أَصدقُ إِنباءً من الخشبِ، وأَبلغُ من كلّ تعبير باللغة الخشبية، كما في صُورة مُرعبة نشرتْها “فرَنس ﭘْــرِس” قبل يومين لطفلةٍ رضيعةٍ ماتت من الجوع بسبب سوء التغذية وسْط حصارٍ في ضاحية دمشق.
أَمام “بلاغة” تلك الصورة، لا يعودُ مُهِمًّا مَن هو المسؤُول وما تبريرُه، لأَن كلامه سيكون “صحيحًا سياسيًّا” في لغة “خشبية” كذّابة لم تُنقِذ من الموت تلك الطفلة الرضيعة.
هـنـري زغـيـب
www.facebook.com/poethenrizoghaib