“نقطة على الحرف” – الحلقة 1329
أَبجد هوز حطي كلمُنْ… شكلُ اللغةِ بقى “مسخرةٌ”
إِذاعة “صوت لبنان” – الأَحَــد 8 تشرين الأَول 2017

هذه الكتابةُ/الـمِسْخ… تُـشَـوِّهُ اللغةَ العربيةَ، والعـقلَ والـمَنطق

عند الكلام عادةً على التَلَوُّث، يَذهب الذهنُ عُمومًا إِلى تَلَوُّث الماء أَو الهواء أَو النفايات أَو الصرف الصحي، أَو إِلى أَيٍّ من مسبِّباتِ تلوُّث البيئة، وما أَكثرَها عندنا وأَشنَعَها. غير أَن التلَوُّث الذي يؤْذي الشَمَّ، وتاليًا يُضِرُّ بالتنفُّس عبر الرئتين، يلازمه، إِن لَـم يُـؤْذِ أَكثرَ منه، تلَوُّثُ العين والأُذن، ويا ما أَكثَرَه عندنا وأَشْنَعه، بين الإِعلانات الكبيرة على الطرقات، والإِعلانات المسموعة أَو المتلـﭭـزة.

قرأْتُ هذا الأُسبوع، على إِعلانٍ ضخمٍ تعَدَّد في أَكثرَ من سطح بناية في المدينة وفي معظم الشوارع خارجَها، جاء فيه كلمة “مْرُوءْ من عِـنّـا” بكل بشاعة هذه الكلمة التي تعني “مُرَّ من عندنا”، وبالمحكية تُكتَب بالقاف (“امرُقْ”). وهذا هو التلَوُّثُ الذي يؤْذي العين ويَخدش النظر ويلوِّث العقلَ والفكرَ والمنطق، واللغةُ عقلٌ وفكرٌ ومنطق.

ومن التلوّث أَيضًا ما أَراه على لافتات أُخرى: “إِربت الشتوية” (والمقصود “قربت”) وهذه أَيضًا تؤْذي العين لصفاقة التعدّي على الحرف العربي وانتهاك مدلولِه برُعونة كاتبيه.  وفي إِعلانٍ سخيفٍ آخر وَرَد: “أَدّ السما” (والمقصود “قدّ السما”). وفي إِعلاناتٍ شارعيةٍ أُخرى وفي الصُحف لـمَحالَّ تجارية: “خصْم 50 %” (والمقصود “حسْم 50%”). فهل جَهلٌ أَوقحُ بعدُ من هذا الجهل باغتصاب اللغة إِلى هذا الحد الأُمّي الأَرعن؟

ويزيد من تسخيف الجهل وتجهيل السخافة: استخدامُ كثيرينَ الرقمَ (أَو الحرفَ اللاتيني) للإِعلان عن صنف، أَو محل، أَو عنوان ملهى، أَو دكان مناقيش أَو كعك أَو أَركيلة، فيستعملون الرقم العربي 2 (وهم يَظنُّونه أَجنبيًّا بينما هو الرقم العربي) يستعيضون به عن الهمزة أَو القاف في أَصل الكلمة. وهو ما قرأْتُه أَخيرًا على إِعلانٍ عن راقصة تعرض “مستنداتِـها” بوُضوحٍ مُقْرف، وتحتها عبارة “طُقّ وموت” باستخدام رقم 2 (TO2) بدل حرف القاف الذي نجا هذه المرة من استعماله بالهمزة فأَطاحوه اغتيالًا بالرقم 2.

إِنّ لغتنا العربية الجميلة معروفةٌ بأَنها لغةُ الضاد، لكنّ هذه الكتابةَ الجاهلةَ الأُميَّةَ الـمِسخ باتت لغة الهمزة على الأَلف بدل القاف، كأَن بين مستخدميها وبين القاف عداوةً زادت عقولَهم العوجاء سُخفًا وجهلًا وانعدام مسؤولية.

قلت في مطلع حديثي إِن تلوُّث العين والأُذْن بصريًّا أَكثرُ أَذًى من تلَوُّث الشَمِّ بيئيًّا، لأَنه يدمّر العقل والمنطق. فاللغةُ باقيةٌ حيةً فينا لأَنها بنْتُ العقل الـمُنظِّم والـمُنظَّم، ونتيجةُ منطقٍ يُبرر كل كتابة ويُعَقْلِنُها. لكنّ هذه الكتابةَ/الـمِسْخ تؤْذي عيوننا على الطرقات وتُهدّد عقل أَجيالنا الجديدة وتُفسد منطقهم. والأَمرُ ذاتُه عن تلوُّث الأُذن بأَغاني هذا العصر السخيفةِ الشنيعةِ كلماتٍ تافهةً وطرطقةَ أَلحان، إِضافةً إِلى نكَباتنا بأَخطاء مذيعات ومذيعين ومقدّمي برامج إِذاعية وتلـﭭـزيونية لم تعُد لديهم جملةٌ واحدة في لغةٍ واحدة إِلا وفيها كلمة واحدة بين كل كلمتين يَزجُّونها جهلًا وسخافةً من لغة أُخرى، إِن لم يزُجُّوا كلماتٍ ثلاثًا من لغاتٍ ثلاثٍ في جملة من ثلاث كلمات.

التلوُّثُ البيئي يؤْذي في مكانه ويعالَـجُ فتَنقَى بيئةُ المكان. لكنّ نَـحْرَ اللغة بتهشيم كتابتها، يُلوِّث العقل والمنطق لا في مكانٍ معيَّنٍ بل في كلّ ِمكان. ويا تعْس جيلٍ جديدٍ يكبَرُ على هذا التهشيم اللغوي الوقِح الذي باتَ هشيمًا خطِرًا  يهدد باندلاع نارٍ ستقضي على عقل هذا الجيل ومنطقه، وتَطرحُه مسْخًا هجينًا في مجتمعٍ يتحوَّل انحرافًا إِلى مسْخٍ وهَجين.                     

هـنـري  زغـيـب 

email@old.henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib