قبل أَن نُصبحَ يومًا دينوصورات على طُرُقات الوطن
المتحف المفتوح للمتحجِّرات المعدنية عام ٢٠٢٠
فيما كنتُ أَمسِ الأَول مسجونًا ككُل يوم وسْطَ غابةٍ هائلةٍ من الحديد في زحمة السير (الجلجلة التي أُعانيها يوميًّا للدخول إِلى العاصمة بعذابٍ يومي مسمّى “عبور الأُوتوستراد بين جونيه وبيروت”)، وفيما السير متوقِّف والمواطنون مستوقَفُون والوقت واقف على بوابة الانتظار المجّاني، تذكّرت سؤَالًا سمعتُه نهار الأَربعاء الماضي من ولدٍ يسأَل أَباه: “هل صحيحٌ أَننا إِذا بَقينا طويلًا تحت الماء نَتَحَجَّر كهذه الأَسماك؟”
كان ذلك في متحف المعدنيات، المعروف بــ”متحف ميم”، والولَد يتجوَّل مع والِدِه في أَرجاء المتحف بين معدنيات دهرية وبلَّوريات متجمِّدة وأَسماك متحَجِّرة منذ ملايين السنوات، والوالد يشرح أَنّها بقيَت طويلًا تحت الغَمر حتى إِذا انحسَرَت عنها المياه تجمَّدَت وتحجَّرَت بين طبقات الحجارة والصخور.
لم يكن بريئًا سُؤَالُ ذاك الولد البريْء: فبَعد أَيام سيَنهمر مطر تشرين، وتسقُط الشلّالاتُ علينا في غابة الحديد، ونبقى متجمِّدين ساعاتٍ طويلةً مطّاطةً بدون نتيجةٍ سوى الانتظار تحت الأَمطار والعواصف، فَتَتَحَتَّتْ آخاتُنا، وتَتَحَجَّر صرخاتنا، ونَتجمَّد في متحفِ معدنيّاتٍ بشريةٍ قد يزوره بعد ملايين السنوات ولدٌ آخر يسأَل أَباه: “لماذا تَحَجَّر هؤُلاء الناس”؟ فيُجيبه الوالد: “لأَنهم ظلُّوا تحت الماء طويلًا طويلًا، فلمّا انحسَرَت عنهم المياه تحجَّروا دينوصوراتٍ على الطريق بين جونيه وبيروت”.
بلى: هي هذه حالُنا كلّ يوم بين جونيه وبيروت، في مسافة لا تتجاوز خمسة عشَر كيلومترًا يقطَعها رياضيٌّ على دراجته في خمس عشْرةَ دقيقةً، ويقطعها سائق السيارة في خمسَ عشْرة ساعةً، أَو خمسةَ عشَرَ يومًا، أَو خمس عشْرةَ سنةً، حتى يَتَحَجَّرَ كلُّ ما في جسده وعقله وأَعصابه.
حاولتُ مرارًا أَن “أَتذاكى” لأَهرب من الازدحام، بِغُدُوِّي باكرًا قبل صياح الديك، أَو تَأَخُّري بعد دوام المدارس والموظفين، إِنما النتيجة هي هي: أَيَّامًا طرقاتٌ مشكوكةٌ سياراتٍ زاحفةً كما يصطفّ الناس يوم الحشْر، وأَيَّامًا أُخرى طرقاتٌ مفتوحةٌ كطريق الجنّة أَمام الأَبرياء الطاهرين. هكذا فشلَت محاولاتي وأَفكاري الـمُتَذاكية، فلا مقياسَ للطرقات ولا معيار، وأُسقِط في يدي كما يَسقط عصفورٌ ذَبيحٌ أَمام جَزمة الصياد. ولا أَدري كيف يُـمكن التذاكي أَكثر للخلاص يومًا من هذا العذاب الـجُلجُليّ اليومي. العام الماضي استعددتُ لـموسم الشتاء فوضعتُ في سيارتي جميع لوازم السبَاحة: دواليبَ إِنقاذٍ مطّاطية، ملابس نايلونية خاصة، أَغراض كاوتشوكية،… كي “أَخوض” سباق السباحة بين جونيه وبيروت وسْطَ بـُحيرات وأَنهارٍ كانت تَعُوم عليها سيارتي الـمغمورة فوق الـمَـجاري المطمورة لأَن الـمعنيين لم يفتحوها فطافت الـمياه على طرقات الوطن.
ومع الأَوّل من تشرين الأَوّل هذا العام، بدأْتُ أُفكّر كيف أَستعدّ لـموسم هذا الشتاء كي لا أَتَـحَجَّرَ كالأَسماك المتحجِّرة حين تنحسرُ المياه عن غابة السيارات في الطريق بين جونيه وبيروت. وبين سباحةِ العامِ الماضي، وخوفِ التحَجُّر هذا العام، أُفكِّر بِوَلَدٍ سيَدخُل متحف الأُحفوريات، ويرى صفًّا طويلًا من سياراتٍ صَدِئَةٍ فيها مواطنون متحجِّرون، فيسأَلُ أَباه: “أَلَـم يكن مُـمْكنًا فتحُ الـمَجاري قبْل موسم الشتاء كي لا يتحَجَّر هؤُلاء الناس”؟ ولن يَـجِدَ والدُهُ جوابًا عن ذاك السؤَال الأَعْوَص العَوِيص سوى قولِه لابْنِهِ إِنّ الدولةَ، في تلك الأَيام السحيقة من الزمان، لم تَكُنْ تَتَحَسَّبُ لـمَوسم الشتاء، فكان أَن يَنهمرَ المطر، وتَعومَ الطرقات، وتمتدَّ البحيرات، ويغرَقَ الناس، سنينَ ودهورًا طويلةً كان الناسُ يغرقون، وعندما يُطلّ الربيع كانت تَتَغاوى زُهُورُ الحقول زاهيةً مُلَوَّنة، بينما على أُوتوستراد جونيه بيروت يتكشَّفُ صفٌّ طويلٌ من السيارات الـمُتَصَدِّئة، والناس الـمُتَحجرين دينوصوراتٍ على طرقات الوطن.
هـنـري زغـيـب