ما إِن انتشر نبأُ انكشاف جثامينَ في منأًى من الجرود حتى بدأَ، كالعادة، كرنفال التنظيرات والتقديرات والتحليلات والتهجُّمات والاتهامات والتساؤُلات: مَن القاتل؟ مَن الشهيد؟ مَن الـمُجرم؟ مَن المتواطئ؟ مَـن الـمُتَلكِّئ؟ مَن البطل؟ مَن الـمُسبّب؟ وأَخذَت الشاشات تتسابق على استضافة “الـمُحلِّلين الستراتيجيين” و”الخبراء السياسيين والعسكريين” يُدلون بأَفكارهم الـمفيدة وآرائهم السديدة وتصوُّراتهم الحميدة وخلاصاتهم البعيدة، ومعظمُها خارج الواقع والحقيقة والمسؤُولية الوطنية.
صار كلُّ واحد منهم مدَّعيًا عامًا، كلُّ واحدٍ محاميًا عامًّا، كلُّ واحدٍ قاضيًا عادلًا، كلُّ واحدٍ مُـحَكَّمًا وحاكِمًا ومستحكِمًا وحكيمًا، وعلَت متاريس الإِعلام وسيلةً ضدَّ وسيلة، وانفلَت جُرف وسائل التواصل الاجتماعي، هذه التي بلا حسيب ولا رقيب، وراحت التُهَم والتهجُّمات تتشظَّى إِلى كل اتجاه، في فوضى لم يعرفها برج بابل في أَسوإِ فوضاه.
كلُّ هذا جاء مؤْذيًا أَهالي الشهداء والمفقودين، مؤْذيًا الرأْيَ العام اللبناني، مضلِّلًا الرأْيَ العام العالمي، وخصوصًا مؤْذيًا هيبة جيشنا الذي لم تعُد لنا هيبةٌ سواه، بعد سقوط الأَقنعة عن وجوه سياسيين كثيرين ثَبُتَ ضعفهم أَو تواطُؤُهم أَو تَخاذلُهم أَو استسلامهم أَو استزلامهم بما لا يقبله عقل ولا منطق.
وأَشدُّ الأَذى لحِقَ أَهالي المفقودين والمخطوفين والشهداء، وطالهم في أَقدس لحظاتهم الإِنسانية العميقة باغتصاب عواطفهم، فلم يحترم أَحدٌ قلَقهم الكبير وهولَهم الخطير وترقُّبَهم المرير، لكثرة ما وقعوا – بانتظار نتائج الحمض النوويّ – وسْط مزايدات مزيَّفة، وترجيحات مكيَّفة، وعواطفَ كذَابة، ومتاجراتٍ أَكذب، وأَحزانٍ أَكذب وأَكذب. لم يحترم أَحد جرحهم وبكاءَهم ورعب انتظارهم خَبرًا مدمِّرًا تهلع له أُمٌّ في خيمة انتظار، أَو ينهار له والدٌ في شبه احتضار، وهم – بين كاميرات السبَق الصحافي وفضول الناس المجاني – ممنوعون من البكاء الشخصي على مصير مجهول يصفعهم بحقيقته الفاجعة المفجعة.
بلى: مؤْذيةٌ تلك المزايداتُ المجانية وتراشقاتُ المسؤولية التي تستبق التحقيق ونتيجة الحمض النووي والبيانات الرسمية.
بعيدًا عن جميع الآراء في السياسة والأَمن والحرب والستراتيجيا، فَلْنَتْرُكِ الوقت الجواني للأَهل المفجوعين كي يدفنوا أَولادهم في قلوبهم أَولًا قبل شاهدة الضريح، وَلْنَحْتَرِمْ حُزنَهم الجليل، وَلْنَبْتَعِدْ عن المزايدات السخيفة في لحظات حزن شخصية يحتاجها مَن يودُّ الاختلاءَ إِلى ذاته في ذاته مع ذاته مِن ذاته كي يبكي وحده فقيدَه بدون متفرّجين ولا متضامنين ولا متظاهرين ولا معتصمين ولا مذيعين ولا معزّين ولا مزايدين.
إِن لحظةَ الموت، أَو ارتقابِ الموت، أَقدسُ لحظةٍ خاصة في أَقدس حالة شخصية. فَلْنَبْتَعِدْ عن التنظير بالنظَّارات، ولْنَدَعْ لحظةَ قُدسيةِ الحزن للقلوب الثكلى، وَلْنُقْلِعْ عن التبَـرُّع بأَحكامٍ باردةٍ تُفْقِدُ اللحظةَ حرارةَ قدسيتِها، وتكاد أَن تُفقِدَ الوطنَ قدسيةَ الكيان، وأَن تُفقِدَ الجيش قدسيةَ القرار، وأَن تُفقِدَ الدولةَ آخرَ مدماكٍ من ثقة المواطنين بها، قبل أَن تنهارَ الدولةُ بنا، وينهارَ البيتُ علينا، ونُصبحَ جميعًا مشرَّدين إِلى خيامٍ منصوبةٍ في العراء لا يقبَلُها أَيُّ رصيفِ لاجئين.
هـنـري زغـيـب
www.henrizoghaib.com