تداوَلَ الإِعلامُ قبل أَيامٍ نتائجَ دراسةٍ جِـيـنـيّـةٍ أَظهرَت أَنّ اللبنانيين في معظمهم متحدِّرُون من الكنعانيين الذين لاحقًا سـمّاهم اليونان “الفينيقيين”، سكَنوا جُلَّ الساحل الممتَدّ اليوم من سوريا شمالًا إِلى فلسطين جنوبًا.
ومع تقديرِنا هذه النتائجَ الرصينة، وأَكثرُها من تنقيبات أَثرية في صيدا ذاتِ التاريخ الأَعرق في العصور الغابرة، بدأَت المزايدات غيرُ العلْمية تتردَّد، تَـبـاهيًا بهذا “الأَصل”، حتى التعصُّب الحاد والشوﭬـينية العمياء وإِلْغاءِ الاعتراف بالآخَر.
هذا الأَمر تَـجَلّى في الماضي أَيامَ كان البحثُ في الأُصول والأَعراق دافعًا إِلى تحديد هُويةٍ أَو عرقيةٍ أَو نَـسَـب. لكنه اليوم لم يَـعُـد جائزًا، والاكتشافاتُ العلْمية تُـثـبـتُ تِباعًا أَنْ ليس في العالم عرْقٌ واحدٌ صافٍ أَو متفوِّق أَو فريد، وهنا يصبح التباهي ضربًا من إِحاديةٍ لا توصل إِلَّا إِلى السذاجة.
مع أَحدث الاكتشافات الجِـيـنـيَّـة الحديثة، يتّضح أَنّ أُصولَنا ترقى إِلى أَجناسٍ وأَعراقٍ مختلفة، وأَنّ لدينا جوامعَ مع الآخَرين أَكثر مما نظن، وأَننا أَبناءُ شبكات وراثية متداخلة مع كل العالم، وأَنّ الفَرد اليوم إِنسانٌ عالَـميٌّ في كوكبٍ منفتحٍ جـيـنـيًّـا على بعضه بعضًا أَكثر مما يَعتقد سكّانه، وأَنَّ ما يُوحّد البشرية أَكثرُ مما يفرّقها.
لذا باتَ اليوم خاطئًا أَيُّ تَشَبُّثٍ يُوْدي إِلى حالاتٍ بشعة من الحقد والعنصرية والكراهية والتَـزَمُّت، تَـرفدُها ظواهرُ مَرَضيَّةٌ من “التباهي” على الآخَر بالأُصُول والجذُور: “أَنا أَفضل منك”، “أَنا أَقدَم”، “أَنا أَقوى”، “أَنا أَعرق” …، إِلى كْليشِيَاتٍ مُكَـرَّرةٍ بَــبَّـغاويًّا، باتت نافلةً لأَنّ في كل فَردٍ منا جـيـنـاتٍ مشتَرَكَةً مع سائر العالم. فحتى الكنعانيُّون – على ما جاء في “المجلة الأَميركية للجـيـنـات البشَرية” – كانوا سلسلةَ قبائلَ تجمَّعَت في المشْرق قبل آلاف السنين، ومنهم تناسلَت أَعراقٌ وأَنساب. وعن مجلة “ناشيونال جيوغرافيك” أَنّ حفرياتِ مرفإِ صيدا أَخرجَت بقايا أَشخاصٍ في جرارٍ فخاريةٍ دلّت جـيـنـاتُهم على أَنهم من إِتـنـيـاتٍ مختلفة عبر العصور السحيقة. وفي مجلة “بعل” – الصادرة عن المديرية العامة للآثار في لبنان – دراساتٌ عِلْميةٌ رصينةٌ تُشير دوريًّا إِلى أَحدثِ نتائجِ الاكتشافات، وهي إِشاراتٌ تَـحُــثُّـنا على الوعي العِلْمي الهادئ بعيدًا عن انفعالاتٍ عاطفيةٍ عنتريةٍ يَزيدُ التباهي بها تَباعُدًا بين أَبناء الوطن الواحد شعبًا وأَرضًا.
مُهِمٌّ أَن نَعي عِلْميًّا أُصولَنا والجذُور، إِنما الأَهَـمُّ أَن نَعي أُصُولًا لنا مشتَرَكَة وجُذُورًا مُـمتَـدَّة مع الآخَرين، فَـلْـنَـخْـلَـعْ عنا أَثوابَ التقَوْقُع البالية، وَلْـنَـعْـتَـنِـقْ مبدأَ الإِنسانيةِ الواحدة التي تُـثْـبِـتُ أَنَّ الفَرد ابنُ الجماعة، وأَنَّ الجماعةَ حلقةٌ في سلسلة، وأَنَّ السلسلة مترابطةٌ من أَقصى الكوكب إِلى أَقصاه، منها يَـتَـكَـوَّن الجنسُ البشريّ، ومنه في كل عصرٍ دلائلُ بَــيِّـنـةٌ على الإِنسان الواحد في هذا العالم الواحد.
هـنـري زغـيـب
www.facebook.com/poethenrizoghaib