“نقطة على الحرف” – الحلقة 1315
لا تْـحـاكيـني بِــالْـــوَمَـــا
إِذاعة “صوت لبنان” – الأَحَــد 2 تموز 2017

لا أَعرف تمامًا – ولا أَظنُّ أَحدًا يعرف تمامًا – كم من القُرون والعُصور مرّت بين استخدام الإِنسان البدائي الرمُوزَ والإِشارات، واكتشافِه الحروفَ للتفاهم والتواصل.

حتمًا هي حقَباتٌ طويلةٌ مظلمةٌ عاش إِبّانها إِنسانُ المغاور والكهوف، لا يعبِّر إِلَّا شَفاهةً بأَصواتٍ وصرَخاتٍ وتصويتاتٍ وتعابيرَ بالجسد، وبصُوَرٍ بدائية ورسومٍ تشبيهية تدُلُّ على ما يريد قوله أَو تسجيله على جدران الكهف أَو المغارة أَو الصُخُور المحيطة: هنا رسمُ عصفور، هناك رسمُ بيت، هنالك صُورة وجه، وما إِليها، ثم تطوَّر الأَمر إِلى الأَبجديات المتتالية من بدائيَّتها إِلى الأَحدث، هيروغليفيًّا ومسماريًّا وما إِليهما، حتى كانت أَولُ أَبجديةٍ تصويتيةٍ ناطقة هي الفينيقية الأُمُّ التي وُلدت منها لاحقًا جميع الأَبجديات الحروفية برموزِ أَحرفٍ ناطقةٍ أَلغت الرسوم والرموز، لتنجمع في كلماتٍ معبِّرة واضحة.

 بعد قرونٍ وعُصور، وفي الربع الأَول من هذا القرن الحادي والعشرين، عدنا إِلى الرموز والإِشارات، خصوصًا في الرسائل النصِّية السريعة على الهاتف الخَلَوي، معروفة باسم emoticons، يستعملها كُتّاب الرسائل النصية السريعة ليعبِّروا بها عن مشاعرهم فرحًا أَو خيبةً أَو تصفيقًا أَو ابتهاجًا، إِلى آخر سلسلةٍ كثيفةِ الرموز كثيرةِ الإِشارات.

 قد يُجيبني مَن يقول إِنها اختصار وقت وكتابة، بالضغط على رمزٍ أَصفرَ واحدٍ يعبِّر عن شعورٍ قد يستغرق دقائقَ لكتابته حروفًا وكلمات.

 على أَنّ الخطر في هذا الاختصار ليس في سرعة استخدامه بل في إِبعاد مستخدميه عن اللغة، أَيًّا تكُن اللغة التي يكتبون بها، وتاليًا، رسالةٌ نصِّية بعد رسالة، يَتَكاسلُ العقل تدريجيًا فلا يعود يُسعفُ مَن يُريد استخدام الكلمات في مواضع أُخرى، تمامًا كَمَن يستخدمون الحرف اللاتيني للكتابة باللبنانية، مستعملين أَرقامًا عوَض الحروف، حتى باتت لغةُ الرسائل النصّية خطرًا في ذاتها على اللغة، كلِّ لغة.

 هكذا إِذًا: بقيَ الإِنسان الأَوَّلُ قرونًا وعُصورًا كي ينتقل من الرموز والإِشارات إِلى اللغة الكاملة، وها إِنسانُ اليوم يعود إِلى تلك الإِشارات البدائية، كأَنها عودةُ العصر الحديث إِلى العصور البدائية الأُولى، عصورِ المغاور والكُهوف.

 إِن اللغة بنتُ العقل. واختصار اللغة برموزٍ وأَحرفٍ يؤَدّي إِلى كسل العقل.

 وحين يَتكاسل العقل عن التعبير في لغة كاملة، يتكاسل أَيضًا عن التفكير السليم الكامل، وعندها يصبح التفكير مبتورًا سريعًا متسرّعًا، ساقطًا هو أَيضًا في موجة الرموز والإِشارات.

 وعندئذٍ لا قيامة ناجعةً من الكسل والسرعة، فيكون العصرُ تقَدَّم أَشواطًا، بينما بعضُ العقول فيه رازحةٌ تحت كسَل العقل في انحطاطٍ فكريٍّ لا قيامةَ منه إِلَّا في قُرونٍ وعُصور.

 هـنـري  زغـيـب 

email@old.henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib