في اليوم السنَوي للشِعر (21 آذار) استهلَّت المديرة العامة للأُونسكو إِيرينا بوكوﭬـا رسالتَها هذا العام ببيتَين للشاعر الأَميركي هنري وَدْسوُورث لونـغْـفِلُو (1807-1882):
“لا أَجنحة لنا كي نَرتفع
لكنّ لنا أَقدامًا كي نعلو بِـبُطْءٍ تصاعُدي نحو قمَم زماننا الغائمة“.
هذا الإِقرار بضلوع الشعر في حياتنا اليومية كان أَكَّدَه البابا بولس السادس يوم قال: “نحتاجُ في حياتنا شعراءَ بقدْرما نحتاج قدِّيسين“.
هذه الشهادة تأْخذنا إِلى مقولة الفيلسوف فْرِدِرِيك هيغل بأَن “الشِعر أَكملُ الفنون“، مُشيرًا إِلى تمامية الشِعر مرآةً عاكسةً لـحواسِّنا الجمالَ، الجمالَ البهيّ النقيّ، الجمالَ الذي اعتبره دوستويـﭭْـسكي “يُنقِذ العالَـم من بشاعاته“.
ها نحن إِذًا أَمام أَربعة أَقوال من غير الشعراء (ولذا أَستشْهد بهم) للدلالة على أَن الشِعر ليس تَرفًا بعد انشغال، ولا حبةَ كرَز على قالب حلوى، ولا متعةً تَسْلَوِيَّةً لقضاء الوقت الخالي. الشعرُ، في جوهره، صوتُ القلب حين يطفَح، لونُ الزمَن الزهري حين يَفيض بالنبض الحارّ، وهو صدى الحب حين الحبُ الحقيقيُّ يلهجُ بنعمته التي لا تأْتي في العمر إِلَّا مرةً وحيدة ولو في خريف العمر.
أَيعني هذا أَن الشعر لازَمَنيّ؟ طبعًا. هو ابنُ زمانه ولادةً وهو خارج الزمان حُدودًا. من هنا أَنّ الشعر غيرُ النظْم. هو الوجه الآخر الـمُشْرق للنظْم القاتم حين هذا لفظيٌّ ولو على الأُصول إِنما يبقى خارج اللمعة ذات الأُصول. النظْم يكون كتابةً مسطَّحة أَو إِلقاءً نغَميًّا. الشعر يكون في عطْر غاردينيا، في أَلوان غروب، في ضحكةِ طفلٍ بريء، في إِيقاع لوحةٍ فنية، في توقيع خطْوةِ باليه، في ميلوديا أَخّاذة، في بسمةِ حبيبةٍ تختصر كل الرضا والحنان. فالشعر يخاطب جميع الحواس معًا: هو رقّة السمْع وبهجةُ العين وتعبيرُ العطر ولذةُ المذاق ومسافةُ التنشُّق بين الخيال والحقيقة.
طالعتْني هذه الخواطر وأَنا أُعيد نشْر مجلتي “الأُوديسيه” إِلكترونيًّا، وفيها حوارُ الأَبيات والرسوم، في كلّ عددٍ ريشةُ فنانٍ تجاوِرُ زقزقة القصائد، حتى لتغدو صفحتُها ضُمّة مانيوليا من لونٍ وحركة، تتخاصر فيه كلماتُ الشعر وموسيقى الخطوط في رقصةٍ إِبداعية تنادي القارئَ هُنا إِلى بَداعة شاعر هناكَ إِلى براعة رسام، ما جعل أَعداد “الأُوديسيه” الأَربعين أَعراسًا من الجمال تتغاوى فيها عروسُ الشعر مع عريس الريشة، لتخلُق في المتلقّي رعشَة جمالٍ لا يكون بدونها شِعرٌ ولا رسْمٌ ولا موسيقًى ولا إِبداع.
الشعرُ صُوَرٌ وأَفكارٌ في كلمات؟ صحيح. لكنّ رصف الكلمات لا يولِّد الجمال، بل تركيبُها البارع هو الذي يُثير رعشة الفرح التي تبدأُ في الشعر حين تنتهي كلماتُ القصيدة.
وما عدا ذلك: نظْمٌ باردٌ لا يستحقُّ حرارة الشعر.
هـنـري زغـيـب