من أَسرار الموسيقى، في لغتها العابِــرةِ جميعَ اللُغات، أَنها تخلُق في متَلقّيها “حالةً أُخرى” تنقُلهم من “هُنا” حالتهم العادية إِلى “هناك” ممتعٍ غيرِ عاديّ، بفضل عبقريَّـــتها الرُوحية، وقُدرةِ مؤَلِّـفها على خلْق هذه “الحالة الأُخـرى” في قلوب الـمتلقّين فتحملهم إِلى أَجواءَ هَيولانية خارج المكان والزمان.
أَذكُر أَنني حضرتُ أُمسيةً كلاسيكية بقيادة هربرت فون كارايان كانت خلالها متعةُ تأَمُّلي وجهَه المخطوف وهو يقود، تُعادل روعةَ ما كانت الأُوركسترا تؤَدّيه من أَعمال بيتهوفن. ذلك أَن القائد الأَمين لكتابة المؤَلّف الموسيقي، يقود بأَعصابه المشدودة على اتِّــزان، قبل أَن يقودَ الموسيقيين وفْق حرفيّة التأْليف الموسيقي المكتوب أَمامه على المنصة.
هذا الشعور بتأْثير الموسيقى على المتلقّي طالعًا من قائدٍ ينقل هيبتَها بحضوره وانخطافه، طالعَني وأَنا أُشاهد، الأُسبوع الماضي، هاروت فازليان يقود الأُوركسترا الفيلهارمونية اللبنانية في رائعة كارل أُورف “كارمينا بورانا”.
كان هاروت ليلتَها منْـتقِلًا إِلى “الحالة الأُخرى”، ونقَلَنا معه إِلى هذه الحالة.كان ينقَضُّ على الجُمَل الموسيقية انقضاضَ نسْرٍ على مساحات الفضاء. لم يكن يقود بعصاه وحسْب (هذه غَدَت ثانوية في يده) بل بكل تعابير وجهه ويدَيه وجسده، منخطفًا إِلى أَجواء كارل أُورف في حس موسيقي رهيف، عَينُه على الموسيقيين والكورس معًا، يقود هؤُلاء ويقود أُولئك، في نبْض موسيقي ثابت، مُـمسكًا بخيوط النص غيبًا فلم تكن به حاجة إِلى وضعه أَمامه على المنصة، متحوّلًا من طبيعته الهادئة بتهذيب الخفَر إِلى جو أَلْـماني رزين فيه كتَبَ كارل أُورف مقطوعته بالحزم الأَلماني الحاد، معطيًا القصائد الأَربع والعشرين فُسْحَتَها من التعبير بأَصوات المنفردين كما بأَصوات الكورس، ما جعلَ العمل كلَّه يتكوكب في قبضة يده المرتفعة في الهواء قيادةً وإِيقاعًا ونبْضَ أَداء.
ومع انتهاء المقطوعة بدقائقها الإِحدى والسبعين، واستدارةِ القائد مُـحَــيِّــيًا بتواضعٍ جمهورًا كثيفًا كان منْـتقِلًا معه وبفضله إِلى”الحالة الأُخرى”، عاد هذا الهاروت إِلى طبيعته الأُولى، إِلى حالته الأُولى، ذاك الحـيِــيَّ الـخفِر على تهذيب جَـمّ، فكأَنه خرجَ من هالة القائد أَمام هَـيـبـة كارل أُورف وعاد إِلى حالة المتذوّق العاديّ في حياته اليومية بين الناس.
ما أُريدُه من كلّ هذا الأَعلاه: معيارُ “الحالة الأُخرى” التي ينتقل إِليها القائدُ أَمام المنصة، والشاعرُ إِلى المنبر، والممثلُ على المسرح، والمغنّي حيالَ جمهوره، دلالةً على إِخلاصٍ في هذه الوِقفة، به وحده ينقُل متلقّيه من حالتهم اليومية العادية إِلى حالتهم “الأُخرى” التي لا ينفُثُها فيهم إِلّا الفن العالي، كلمةً أَو موسيقًى، حين يُـخرج جمهورَه من طور الأُفقيّ المسطّح إِلى العموديّ عُمقًا في الشعور وعُلًى في التعبير عنه بإِخلاص.
وفي هذه “الحالة الأُخرى” سِـرُّ الإِبداع الحقيقي.
هـنـري زغـيـب