“نقطة على الحرف” – الحلقة 1285
تشجيعُ مَن في الداخل قبْل استقطاب مَن في الخارج
إِذاعة “صوت لبنان” – الأَحَــــد 4 كانون الأَوّل 2016

في حديثي قبل يومَين إِلى طُـلّابِ ثانويةٍ رسميةٍ عن الأَدب المهجريّ، فوجئوا بقولي لهم إِنّ لبنان هو البلد الوحيد الذي له ذاك الحجمُ من الأَدب الخاص بأُدبائه وشُعرائه بعيدًا عن لبنان، واستشهدتُ بـ”الرابطة القلمية” في نيويورك و”العصبة الأَندلسية” في البرازيل، ومعظمُ أَعلامهما لبنانيون كتبوا حنينهم إِلى لبنان في قصائدَ نابضَةٍ بِـحِسّ الفراق وشوق العودة.

يأْخذني هذا الأَمر إِلى الحديث المتكرّر عن دعوة المنتشرين للعودة إِلى حضن أَرضهم الأُم، وعن تصرُّف بعضهم هناك بِفَوقيةٍ متشاوفة، ونحن الباقون هنا محتملين مصائب وكوارث وشواذات، يَرَون إِلينا بنِظرة استعلائية ناعمين بالمتوفّر لديهم هناك في حيثما هم وليس متوفرًا لدينا في ربوع وطننا الغالي.

هؤلاء لا حاجة إِلى التعليق على نظرتهم الفوقية ولْيَبْقُوا حيث هم فلا مكان في لبنان لـمن يَـجحَد أُبُوّته. أَما دعوة المنتشرين إِلى العودة، فدُونها عوائقُ سياسية ولوجستية وحتى ذهنية يسببها أُولو الأَمر عندنا ويعيق المنتشرين عن أَن يتشجّعوا ويعودوا. صحيح أَنّ في العالم كوكبةَ لبنانيين ناجحين هناك في ميادين أَعمالهم، لكنّ في لبنان هنا كوكبةً أَكبر من اللبنانيين المبدعين هناك إِنما لا تتوفّر لهم هنا مقدّراتٌ متوفرةٌ في العالم تسهيلاتٍ وفُرَصًا وعدمَ تمييز طائفي ومذهبي وطبقي، ولو توفرت لهم هذه المقدرات هنا لفاقوا مَن هناك إِبداعًا وإِنتاجًا.

في جميع بلدان العالم مَن هاجر من أبنائها إِلى بلدان الآخرين ونَعِموا فيها لأَنهم وَجَدُوها أَفضلَ من بلدانهم الأَصلية ففضّلوا تلك البلدان على بلدانهم. وهذا ما يحصل في لبنان العالق بين براثنِ طبقةٍ من القادة، منذ عقود حتى اليوم، تتحكّم بمقدّرات البلاد بشرًا ومصيرًا وتـحجُب عن مواطنيها فُرَص التنعُّم ببلادٍ لهم لا طبقيّة فيها ولا تمييز كي تكون فعلًا بلادَ المواهب لا بلاد المذاهب.

من هنا واجبُ المسؤُولين، قبل أَن يُشَجّعوا مَن في الخارج على العودة، أَن يُشَجّعوا مَن في الداخل على البقاء، حتى يتكَوكَبَ الداخلُ طاقةً إِنتاجيةً رائعةً خلّاقةً فلا تبقى حاجةٌ إِلى اطّلاب الهجرة ولا رغبةٌ في مغادرة الوطن ِإِلى أَوطان غريبةٍ تستقبلهم وتتيحُ لهم فرَصَ النجاح بشخصهم لا بانتمائهم، وبإِبداعهم لا بـمحسوبياتهم وانتماءاتهم السياسية والطائفية والمذهبية، وبحريتهم لا باستزلامهم إِلى هذا أَو ذاك من الزُعماء.

ومن أَسسوا للأَدب المهجري اللبناني كانوا متنعّمين في حيثما هم، لكنّ حنينَهم ظَلّ يَشُدُّ بهم إِلى العودة، كما يَشُدُّ حتى اليوم بأَبنائنا الذين في بلدان الانتشار يَتُوقون إِلى العودة ويعودون لكنْ حين لا يعودُ وطنُهم مزرعةً للسياسيين وحصصًا مقسومةً للفروماجيين، ويُصبحُ وطنًا يتولّـى فيه أَيُّ مواطنٍ مناسبٍ كفيٍّ مسؤُوليةً مناسبةً تَنهض به إِلى التقَدُّم، وبلبنان إِلى التطوُّر في دولةٍ تكون خرجَت من المحسوبيات والمحاصَصات، وعندئذٍ ندعو مَن في الخارج إِلى العودة مؤَكِّدين لهم أَنّ الداخل شُفِي تمامًا من أَمراض الكوليرا السياسية الـمتحكّمة بالجسم اللبناني.   

هـنـري زغـيـب

email@old.henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib