كانوا يَهربون من الموت إِلى الموت، يحلُمون به خلاصًا لهم من جحيم الحياة في بلدانهم المحترقة: تنهالُ عليهم قذائف البـرّ فينهالون إِلى البحر بأَجسادهم في أَول مركبٍ ولو قذَفهم إِلى الموت في أَعماق اللُجج الرهيبة.
وكالة اللاجئين لدى الأُمم المتحدة أَحصَت منهم نحو 200 أَلف هارب إِلى أُوروبا. ولكن… ماذا فعلَت الأُمم المتحدة غير الإِحصاء وانتخاب أَمين عام جديد: البرتغالي أَنطونيو غوتّيرِس ليتسلَّم منصبه من الكوري بان كي مون في 1/1/2017؟
حميّة الإِنسانية دفعَت أَخيرًا بالقبطان الأَلماني كلاوس فوغل Klaus Vogelوالناشطة الاجتماعية صوفي بو Sophie Beau إِلى تأْسيس جمعيةSOS Méditerranée واستـئـْجار الباخرة “أَكواريوس جبل طارق” المجهَّزة طبيًّا ولوجستيًّا، وأَطلقا “حملة إِنقاذية خارج التحالفات والخصومات السياسية لـمعالجة الـمآسي الإِنسانية الصعبة التي تعصف بـبـلدان المتوسط”. ولأَن الباخرة تكلّف يوميًّا 11 أَلف يورو، لـجآ إِلى “موقع Ulule الإِلكتروني لتسجيل التبرُّعات” فجمعا سريعًا مبلغ 275 أَلف يورو “وما زالت التبرُّعات تزداد إِلكترونيًّا في سرعة مذهلة”، كما صرّحَت فابيان لاسال نائبةُ رئيس الجمعية، ما كان الناطق باسم الجمعية جان بول ماري رآه “رهانًا كأَنه ضربٌ من المستحيل”، وما لاحظه أَلكسندر موروكس قبطان الباخرة بأَن “إِرادة الحياة أَقوى من كل رهان”.
هي هذه الصورة المشرقة لهذا العمل الفريد التي عجزَت عنه الدوَل فَــتَــولَّــتْــه البادرة الفردية الإِنسانية على متن باخرة تُـموِّلها التبرُّعات إِلكترونيًّا من كل صقْع في العالم لمواصلة عملها الخيري الجبار في عُرض البحر أَسابيعَ طويلةً بفضل طاقم متخصّص من أَطباء ومسْعفين يتولَّون تضميد الأَجساد والنفوس حتى بلوغ الشاطئ الأُوروبي: بَـــر الخلاص من الموت في أَشداق الموج الكافر.
هكذا إِذًا: أَفرادٌ متطوّعون يُنقذون مئات الهاربين من الموت إِلى الموت، فيُهدُونهم الخلاص إِلى الحياة الجديدة، بينما حُكّام الدُول يتحكَّمون بِـمصائر البشر على خرائط البؤْس في حلَب والموصِل وسواهما من مُدُن الحريق العربي، لا من يهتمُّ للقتلى والغرقى والهاربين واللاجئين، ولا مَن يهرع إِلى الإِنقاذ، وما على شاشات العالَـم سوى أَسَف الحكّام والسياسيين، وإِحصاءات الأُمم المتحدة وصمتٍ أَسود في دُول منشغلة بمشاكلها الداخلية وتوسعاتها الخارجية على أَراضي الآخرين فوق جثث موتاهم وأَشلاء الانفجارات وضحايا الدواعش من كل نوع وفصيل.
كأَنها محرقة جماعية تجري في هذا العالم المجنون ولا مَن يَسأَل عمَّن في أَتون الـمَحرقة.
كأَنه يومُ قيامةٍ دائمٌ هذا الذي يفجّره الحكّام كلّ يوم عن شرفة ساديّـاتهم، فيُحرقون روما، ويتفرَّجون على حريقها الذي لا يُطفئُ بعضَ جَـمره سوى كوكبةِ متطوعين أَطهارٍ يَهرعون اندفاعًا إِلى إِنقاذ الإِنسانية من لامبالاة العالَـم.
هـنـري زغـيـب
www.facebook.com/poethenrizoghaib