عند ناصية شارع بونابارت في باريس كنوزٌ لدى مكتبةLibrairie de l’Abbaye تعلنُها “مخطوطاتٍ ووثائقَ تاريخيةً” تضُمُّ نُصوصًا مخطوطةً ورسائِلَ أَصليةً ومُـخطَّطاتِ نثرٍ وشِعرٍ وكتاباتٍ خاصةً ومراسلاتٍ شخصيةً ووثائقَ رسميةً حُكوميةً أَو فردية، تشكِّل مع مرور الزمن خوابي معتَّقةً للإِرث الفرنسي الغنيّ. بينها مثلًا مخطوطة “نهضة الإِصلاح” بخط كليمانصو سنة 1897، ورسالة لجان كوكتو سنة 1950، وأُخرى للرسام دُولاكروَى سنة 1860، ورسالة من جولييت درُووّيه حبيبة فيكتور هوغو سنة 1838، ووثيقة رسمية فرنسية عن الحرب العالمية الأُولى مؤَرخة 2 تموز 1914، ورسالة من فيكتور هوغو غير معروفة مؤَرخة 29 تموز 1850، ورسالة من لامرتين مؤَرخة 2 شباط 1856، ورسالة من الملك لويس الثالث عشر إِلى الكاردينال ريشلْيو مؤَرخة 15 شباط 1631، ومئات مخطوطات نادرة ذات قيمة تاريخية وأَدبية عالية، يتراوح ثمنْها وفق قِدَمِها وأَهمية صاحبها.
وفي مقال نشرتْه “الفيغارو” قبل أَيام عن كتاب رسائل الرئيس الفرنسي فرنسوَا ميتّران إِلى حبيبته السرية آنّ بِنْجو (1200 رسالة بين 1962 و1995 إِضافةً إِلى يوميات ميتّران عن علاقتهما) ظهر أَن السيدة بـنْجو كانت متردِّدة في نشر تلك الرسائل يوم طلبت منها ذلك منشورات “غاليمار”، لاعتبارها أَنها “نصوص شخصية ذاتية قد لا تهمّ القراء”. لكن الكتاب سجّل إِقبالاً كثيفًا فور صدوره.
هذا الأَمر يقودُنا إِلى أَهمية حفْظ التراث المخطوط لأَنّ فيه فائدةً قُصوى لتأْريخ سيرةٍ أَو حدَثٍ أَو مرحلةٍ أَو ظاهرةٍ أَو شخصيةٍ خالدة. فلولا حفْظُ ماري هاسكل رسائلَها إِلى جبران ورسائلَ جبران إِليها ودفاترَ يومياتها الحميمة عن علاقتهما معًا (أَودعتْها جميعها مكتبة جامعة نورث كارولاينا في تشابّل هِلّ) لغابَ وجهٌ بارزٌ من شخصية جبران وأَفكاره وشخصيته لا يظهر أَبدًا في كتاباته المنشورة.
وإِنني عاينتُ هذا الأَمر وأَنا أَجمع رسائلَ ومخطوطاتٍ وكتاباتٍ شخصيةً بـخَطّ الياس أَبو شبكة، يَغْنى بها اليوم متحفُه الشخصي في الزوق، تضيْءُ مراحل من حياته وشخصيته لم تظهر في كتاباته المنشورة وكُتُبه المطبوعة. ولولا الفاجعةُ الـمُرّةُ بإِقدام حبيبته ليلى مُرغَمةً، تحت ضغط عائليّ صارم، على إِحراق مئات رسائلِها إِليه ورسائلِه إِليها، لكان عندنا كنـزٌ فريدٌ من كتاباتٍ وفيرةٍ يوميةٍ عن ذاك الحب الشاعل طيلة ست سنوات من جنون أَبو شبكة العاشق.
وفي هذا السياق نأْسف لضياع مخطوطة مي زيادة “ليالي العصفورية”، سجّلَت فيها بالتفصيل معاناتَها الـمُرَّة إِبَّان الحَجْر عليها في مصَحّ العصفورية للأَمراض العقلية.
المخطوطاتُ الغافية بين أَوراق أَصحابها بعد غيابهم، ثروةٌ تراثيةٌ يجب إِيقاظُها ونشرُها ذُخرًا لا حدّ لأَهميته عند الرجوع إِلى تاريخ الأَوطان بأَقلام مبدعيها الخالدين.
هـنـري زغـيـب