في مسرحية “أَنتيغون” (441 ق.م.) يختار سوفوكل من الشرائع الإِلهية قانون الملك كْريون الذي حرَم أَنتيغون من مـمارسة الشعائر الجنائزية لدفن شقيقها القتيل بولينيس الذي تآمر مع الأَعداء للاستيلاء على السلطة. حول هذه الشعائر الـمُحرَّمة خلُصَ سوفوكل إِلى أَن الموتى، بحرمانهم من شعائر الدفن في قبور، تظل أَرواحُهم تائهةً بين الأَحياء.
هذه الخاطرة مَثُلَت في بالي وأَنا أَمام واحدٍ وثلاثين ناوُوسًا تتجاور بهدوءٍ وسكينةٍ وِسْعَ الطبقة السفلى من متحفنا الوطني: وجوه رخامية هانئة بتفاصيل دقيقة، وحلًى وتماثيل ومجوهرات ومحفورات وأَنصاب ومباخر وعقود وأَمتعة خاصة هي مقتنياتٌ للميت كانت توضع معه في الناووس على عادة الفينيقيين في تكريم موتاهم.
طويلًا توقفتُ أَمام تلك الكنوز المعروضة (*)، أَتـأَمل كيف إِنجازُ التأْهيل للمحافظة على الآثار وصيانتِها وعرض كنوزها، أَتاح لأَجدادنا الاستراحة في قبورٍ لائقة كانوا محرومين منها، مـخنوقين لأَكثر من 40 عامًا في زنازين إِسمنتية، غارقين في مياهٍ آسنة، أَسرى حرب الجهل والظلامية، تتعذَّب أَرواحهم في هذه السراديب.
أَربعون عامًا وتلك الأَرواح تائهةٌ مشرَّدةٌ بين الأَحياء، في طبقةٍ مظْلِمةٍ كانت المنفى الموَقّت الذي اختاره مُكْرَهًا رسولـيُّ السلام والثقافة الأَمير موريس شهاب إِبان الحرب لإِنقاذ تلك الأَرواح من التشرُّد.
وجاءَت الأَيادي البيضاء: المؤسسة الوطنية للتراث، وزارة الثقافة، الوكالة الإِيطالية للتنمية والتعاون، لتحسر عن هذه الكنوز الفريدة كما لتـحرّر الأَرواح من اختناق السجن إِلى اختراق الزمن، في مساحة مُتحفية يتجلّى فيها بِـرَوعتِه، مضمونًا وشكلًا، جلالُ الفن الجنائزي الذي كانت أَرضنا غنيّة به منذ أَعمق العصور.
ها أَرضنا اليوم حسَـرَت عن كنوزها الفريدة، فخرجت من الـحَـجْــر وتَـمدَّدت تتنفَّس الخلود في أَرجاء متحفنا الوطني، وها هي ذي الأَرواح التي كانت تائهةً، باتت تستكين إِلى الراحة الأَبدية في احتفاليةٍ جنائزيةٍ مُـحلَّلة ومـجَلَّلة بالأَمتعة التاريخية النادرة عقودًا وتماثيل ومجوهراتٍ هي تقدماتٌ نادرة ومقتنيات ثمينة جدًّا يتركها الأَجدادُ للأَحفاد جيلًا بعد جيل.
بهذا لا يعود المتحف مكانًا جامدًا لعرض نواويس ومومياءات وأَمتعة جنائزية، بل يغدو واحةَ حياةٍ لأَرواح كانت تائهةً بلا قبور، حتى إِذا تَـهيَّأَت لها نواويسُ مُضاءة تجاوَرَت كَـتَجَاوُر العصور، غَدَت أَرواحًا نابضةً في نواويسها، تروي للأَجيال عصرًا بعد عصر كيف يكون التراثُ هويةَ الوطن، والحفاظُ عليه هويةَ الدولة، والاحتفاظُ به لارتياده هُويةَ المواطنين الذين فعلًا يستحقُّون الوطن ويستاهلون تراثه النادر.
هـنـري زغـيـب
www.facebook.com/poethenrizoghaib
______________________
*) نهارَ افتـتاح الطبقة السُفلى من المتحف الوطني في رعاية رئيس الحكومة تـمَّام سلام بدعوة من وزير الثقافة ريمون عريجي وحضور وزير الخارجية الإيطالي باولو جنتيلوني ورسميين ومثقفين.