في السلسلة الرائجة “أَسرار التاريخ” التي يقدّمها ستيفان بيرن من التلفزيون الفرنسي، شاهدتُ هذا الأُسبوع حلقة “لويس الرابع عشر: مات الملك عاش الملك”، وفيها وثائق تاريخية عن مآثر “الملك الشمس” وما تركه في عهده الطويل (72 سنة) من إِنجازاتٍ ما زالت حتى اليوم فخرَ فرنسا وتاجَ تراثها: الكوميدي فرنسيز، الإِنـفـاليد، سان سير، أَكاديميات الرسم والنحت والهندسة والعلوم، … وخصوصًا قصر فـرساي الذي فتحه لنهضة أَدبية وعلْمية وموسيقية ومسرحية أَنتجت برعايته وتشجيعه وشغَـفه بالثقافة أَعمالًا خالدةً فرنسيةَ الولادة لكنها اليوم عالميةُ الأَثَر، وجميعُها تَدين بظهورها لـ”الملك الشمس” الذي يعرف القليلون عن إِنجازاته السياسية الـمَـلَـكـيـة لكنّ الكثيرين في العالم يعرفون فضله على نهضة وطنه الثقافية التي خلَّدها فخلَّدتْه معها.
هنا جوهرُ الموضوع: ما يترك الحاكم في عهده من مآثــرَ يُـنشئُها برعايته فيَأْمَن خلودَها وتحفظ له خلودَه. وهذه المآثر غالبًا ما تكون ثقافية لأَنها تولَد يومًا وتظَل حيَّة كل يوم، بينما الإِنجازات السياسية يُطلقها الحاكم في حينها ونادرًا جدًّا ما تبقى على اسمه بعد مغادرته السلطة أَو الحياة.
قليلون مَن يذكرون تاريخ الانتهاء من شق ترعة السويس (1869)، لكنّ الكثيرين يعرفون أَن الاحتفال بهذا الإِنجاز المصري التاريخي تـمّ على عهد الخديوي إِسماعيل الذي أَوصى بإِنشاء دار الأُوبرا الفخمة في القاهرة وتـمّ بأَمره ورعايته تكليف المؤَلف الإِيطالي جيوزيبي فـيردي تأْليفَ عملٍ موسيقي للمناسبة فوضع أَوبرا “عايدة”. ومــرّ الزمن: مات الخديوي إِسماعيل، ومات فيردي، وأُوﭘــرا “عايدة” باقية حيَّةً مدى الأَيام ، لا يتم تقديمُها في أَيّ لغةٍ أَو مدينةٍ من العالَم إِلّا وتَذكر النبذةُ عنها أَن ﭬــيردي وضعَها بتكليف من الخديوي إِسماعيل.
وكذا الأَمر عن الخليفة المأْمون بِـجعلِه “بيتَ الحكمة” في بغداد “أَوّل جامعة في التاريخ”، كان لحركة الترجمة فيه أَكبر الأَثَر على نهضة عربية كبرى ازدهرت في العصر العباسي وما زالت حتى اليوم تاجَ التراث العربي.
الشاهدُ من هذه المرويَّـات: التأْكيد على أَن الحاكم الذي يُضمر الخلودَ لاسمه ولولايته، فَلْـيُـرَكِّـزْ على النهضة الثقافية الإِبداعية في عهده، رعايةً وتشجيعًا ودعمًا مبدعيها لا لأَجلهم وحسب بل لأَجله هو أَيضًا لأَن التاريخ يَذكُرُها منسوبةً إِليه، أَكثر مما يَذكُر كم حكومةً أَلَّف في عهده، وكم شارعًا شَقَّ في المدينة، وكم مرسومًا ملَكـيًّا أَو جمهوريًّا يَحمل توقيعه.
المواطنون يتقرَّبون من الحاكم كي يَكبَروا به. أَما المبدعون فالحاكم يتقرَّب منهم، لا لتكريمهم بل ليَـتَـكَــرَّم هو بهم لأَنهم، بآثارهم الأَدبية والفنية، هُم القادرون على نقْله معهم إِلى عرش الخلود حين يَذكُر أَعمالَـهم التاريخ.
وعندئذٍ يكون فعلًا “مات الملك” لكنه عاش بإِنجازاته الثقافية.
هـنـري زغـيـب