أَختُمُ اليوم ثلاثيةً بدأْتُها الأَحد الماضي والأَحد الأَسبق حول هذا الخليط الهجين الخَطِر بـمزْج لغاتٍ عدّة في جملة واحدة عند التكلُّم، أَو المخاطبة، أَو عند الإِجابات في الإِعلام المرئي والمسموع، أَو في المجالس الخاصة.
وكلمة “الخطِر” هنا، لم أَستعملْها اتّفاقًا بل عمدًا، ليقيني أَنّ في خلْط الكلمات الـمحلية بالأَجنبية خطَـرًا على العقل، لأَن اللغةَ بنتُ العقل، واللسانَ ابنُ اللغة، وتاليًا كلُّ خلْطٍ في الـمحكيّ الـمحليّ بالكلام الأَجنبي دليلُ كسَلٍ في اللسَان، يعكس كسَلًا في العقل. فعند الاستسهال باستخدام كلمة أَجنبية يتكاسَل العقل في إِيجاد مُرادِفها باللغة الـمحكية الـمحلية، وهو ما لا يحصل عند الكتابة أَو التكلُّم منبريًّا بالعربية الفصحى التي لا تَسمح بهذا الخلْط العجيب الهجين.
حين يتكاسَل العقلُ الناظِمُ الكلامَ، يتكاسَل التفكير، ويتكاسَل المنطق. وهذا التكاسُلُ الـمُـتناسِل يـجرُّ رخاوةً في سائر الدُرَب الـمعرفية، ما يؤَدِّي: فرديًّا إِلى الفوضى، جَـماعيًّا إِلى الميوعة، واجتماعيًّا إِلى التفكُّك.
لا أَقول هذا تعصُّبًا للمحكية اللبنانية أَو رفضًا للُّغة الأَجنبية. أَحترمُ مَن يخاطبني بلُغةٍ أَجنبية كاملة فأُجيبُه بها، أَو مَن يخاطبني بلُغةٍ مـحليّةٍ مَـحكيةٍ كاملة فأُجيبه بها، لأَنه يستخدم عقله بإِيجاد المرادِفات الأَجنبية في لغتها، أَو الـمحكية اللبنانية في لغتها. أَما أَن يَفوتَه مصطلحٌ في الـمحكية اللبنانية فيستبدلَه بمصطلح أَجنبي من لُغة أُخرى أَو بِـمصطلحات عدّة في لغات أُخرى (كأَن يمزج محكــيّــته اللبنانية بالفرنسية، أَو بالإِنكليزية، أَو بكليتهما معًا في جملة واحدة) فدليلُ كسَل عقلي خَـطِـر وليس أَبدًا دليلَ ثقافةٍ لُغويةٍ واسعة.
من هذا الخطَر، مثلًا:
أَن يكبر الولد على لُغة الخادمات الأَجنبيات في البيت بعباراتِهنّ المكسّرة الهجينة لسببٍ منطقي جدًّا: أَنهنّ لا يُتقنَّ لغتَنا فيكبَر الولد لا يتقن لغتَهُنّ ولا يُتقن لغتَه.
أَو يكبَر الولد على حظْـرٍ قاسٍ في المدرسة من التكلُّم باللغة الـمحكية الـمحلية.
أَو يكبَر الولد على لغة حاضنات لبنانيات تَـمنَعُهُنّ ربةُ البيت اللبنانيةُ من مُـخاطبة الولد بالـمحكية اللبنانية ويفرضْن على الحاضنات مخاطبةَ الولد باللغة الأَجنبية.
أَو يكبَر الولد على أَهله يخاطبونه دائمًا بالأَجنبية كأَنما عيبٌ أَن ينمو على لغته الـمحكية الأُمّ.
أَو يكبَر الولد على لغة الإِذاعة والتلـﭭـزيون يسمع فيها مذيعًا يَطرح السؤَال مَـخلوطًا بلُغاتٍ أَجنبية، أَو مذيعةً تَـمُدُّ حديثًا مـخلوطًا بكلمات أَجنبية، وينسحب الأَمر على إِجابات ضيوف البرنامج أَو الاستفتاء مَـخلوطةً بكلمات من لغات عدّة،… وهكذا تنتقل ظاهرة الخلْط اللغوي من المجتمع إِلى الإِعلام، ومنه إِلى إِعلانات الطرقات الـمخلوطةِ الكلمات، وإِلى إِعلانات الحفلات المخلوطة اللغات، وإِلى “مَـخلوطة” لُغوية خطِرة تُنذِر بتفكُّك مُـجتمعٍ يبدأُ انهيارُه الحضاري بكسَل لسانه الذي يستجيب لعقله الكَسول.
وأَختُم مكرِّرا ما قلتُه في الحلقتَين الماضيَتين: إِن تدمير المجتمع يبدأُ بتدمير لُغته. فاللغةُ وطنٌ كامل، ومتى انخلَطت لغتُهُ الـمحكية – تَـرفًا أَو كسَلًا – بكلماتٍ من سواها غريبة، ينخلط الوطنُ الأَصلي بالسوى الغريب، فيكونُ ما كان ذاتَ مرحلةٍ من أَمر روما حينَ قَــتَــلَــتْــها الفوضى لأَنها غرقَت مشلولةً بين جحافل الغرباء.
هـنـري زغـيـب