فيما لبنانُ الحاضر يترنَّح بين خطرٍ من الداخل وخطرٍ من المحيط، ما زال لبنانُ الأَمس يتوهَّج سُطوعًا وأَلقًا وفرادةَ حُضور.
شبكة “ماتادور” (أَوسع مجلة إِلكترونية انتشارًا للسياحة والسفر. تأَسست سنة 2006 ويطالعُها شهريًّا 12 مليون زائر) نشرَت في عددها الأَخير بحثًا عنوانُـه “أَقدَم 10 مدن في العالم”.
بين تلك المدن ما يتهدَّدها خطرُ الحرب ومنها ما زالت تواصل الازدهار. ويكون أَنّ للبنان منها ثلاثًا:بـيـبـلـوس، صيدا وبيروت.
العَشْرُ وفْـق الشبكة في تسلسل الأَقدم قبل الميلاد: أَريحا (فلسطين-9000 سنة)، بـيـبـلوس (لبنان-5000 سنة)، حلب (سوريا-4300 سنة)، دمشق (سوريا-4300 سنة)، شُوْش (إِيران-4200 سنة)، الفَيُّوم (مصر-4000 سنة)، صيدا (لبنان-4000 سنة)، ﭘــلوﭬـديڤ (بلغاريا-4000 سنة)، غازي عَـنْـتـاب (تركيا-3650 سنة)، بيروت (لبنان-3000 سنة).
تركيزًا على مُدننا اللبنانية الثلاث، جاء في التحقيق أَنّ “بـيـبـلوس مدينة الأَبجدية الفينيقية أَكثر الأَبجديات انتشارًا في العالم، هي اليوم في ازدهار مطَّرد، ووُجْهةٌ سياحية ثقافية تجمع تاريخية الآثار وجمال الشاطئ قبالة الجبال”، وأَنّ صيدا “مدينةٌ جميلةٌ تضُم مساجدَ من العصر الأُموي، ويروى أَنّ بولس الرسول مـرّ بها كما مـرّ بها الإِسكندر المقدوني في طريقه إِلى فتح مدُن كبرى” (جاء في البحث خطأً أَنّ المسيح صنع فيها أُعجوبته الأُولى بتحويل الـماء إِلى خمر، وهي تاريخيًّا حدثَت في قانا لا في صيدا)، وعن بيروت ذكَرَ البحث أَنْ “يشبِّهها المؤَرخون القدامى بالفينيق، هدَّمتها الزلازل سبع مرات وكانت كلّ مرة تقوم من بين أَنقاضها، ووجد فيها منقِّبو الآثار دلائل على رسائلَ من حُكَّامها إِلى فرعون مصر في القرن الرابع عشر قبل المسيح، ودلائلَ أُخرى ترقى إِلى العصر البرونزي السحيق”.
نحن إِذًا أَمام مشهدٍ بعضُهُ مُضيءٌ والآخَرُ مُظْـلم، طالما أَنّ بين هذه المدن الأَقدم في العالم ما تقعُ اليوم تحت خطر الاحتلال (أَريحا) يستغلّ الـمحتل الغاصب موقعها السياحي والتاريخي ومغانم حجاجها والسياح، ومنها ما هو تحت خطر الدمار المتفاقم: حلب ودمشق، الأُولى “تحت حماية”(!) الأُونسكو على لائحة التراث العالمي، واليوم دمَّرت الحرب 60% من معالمها القديمة، والأُخرى تعيش اليوم تحت سماء القلق والرعب من مصير حربٍ تتخبَّط فيها البلاد.
إِنها ذاكرةُ الإِنسان على هذا الكوكب: تُدمِّرها وحشيةُ الظُلامة ونوايا الشر فتُلغي صفحاتٍ من تاريخٍ مجيد قضى بَانُوه أَجيالًا في شقْع حجارته مدماكًا فوق مدماك، فإِذا المداميك تنهار بقذيفةٍ عمياء أَو انفجاراتٍ رعناء أَو حرب عوراء.
لكنّ التاريخ الذي يسجّل للأَمس نَصاعة رجالاته الكبار، يسجِّل أَيضًا لـمُجرمي الحرب لعناتِ الأَجيال عليهم لأَنهم يُلغون من الصباح الآتي فجرَه المضيْء فيقَعُون في لعنة التاريخ إِلى آخر التاريخ.