خشَبُ الورد ! هل مَن يَذبح خشَبَ الورد؟
منه جمالُ البيانو، وأَناقةُ العُود منه، والأَرجُ الذي يفوح في الساحات والمساحات، فهل يجوز اغتياله؟
خشَبُ الورد من شجرة الجاكارندا، هذه الجميلة التي تَفِــيْءُ على الشوارع والحدائق العامة وتحرسها، وإِليها تَلجأُ
رفوف العصافير… هل مَن يَحرم العصافير من مأْوى، وموسيقى الشوارع من حوار أَغصانٍ بنفسجيةٍ تتخاصر في غوًى؟
الجاكاراندا التي تُشرق أَوراقها مع مطلع الربيع وتَغيب مع مطلع الصيف، كيف يُمكن مَـحْوُها من ذاكرة المشهد؟
خشَبُ الجاكارنادا قاس صلبٌ لا يصلح للفحم، يتولّاه النحاتون لصلابته وعناده تحت ضربة الإِزميل فتكون للمنحوتة ديمومةٌ لا تُــفسدها السنوات ولا عوامل الزمن. ويستخدمه البعض في صناعة الأَثاث فلا ينخره الوقت ولا يهرم الخشَب.
كثيرةً كانت شوارع بيروت التي تستقبل الجاكاراندا بفرح الموسم، وتهنأُ في بـهـجـتـها أَجملَ زينةٍ للعين والروح، وها الشوارع تَفقد الجاكاراندا تباعًا لتولَدَ مكانها مكعَّبات الباطون ومـجمَّعات تجارية عالية بلا روح.
ويومًا بعد يوم نَشهد ظـلالًا تنحسر من شوارع بيروت، وزينةً وضّاءةً تنطفئ، وأَنسامًا عبيقة تختفي، وجرّافاتٍ تهجُم وتهدُم، فتـهرب الساحات من هدوئِها، وينطمر التراب، وتعلو الأَبنية جافَّـة صلدة يَختنق بين جدرانها حتى الهواء.
ومَن يتأَملُ صُوَرًا لبيروت الأَمس بساحاتها الهادئة الهانئة وأَشجارها الحانية على الشوارع والبيوت والأَزقّة، يرى الصنوبر حاميًا ساحة ومنعطفًا وغابة، ويتأَمّلُ الأَشجار من كل نوع، أَخضرَها والـمُـزْهر، حارسةً حدائِقَ وبساتين وشرفاتٍ بمهرجان أَزهارٍ وأَلوان وأَعراس عصافير، ويَلاحظُ كيف كانت البيئةُ في بيروت مـحميَّةً طبيعيةً نقيَّةَ المشهد، نقيَّةَ الهواء، نقيَّة السكون، حتى إِذا تأَمَّل الحيَّ ذاتَه اليوم، بين ما كان في الصورة وما صار في الواقع، يُذعَــر من تَـحَـوُّل بيروت كتلةً صخريةً مكتظَّة لا مكان فيها لاستراحة العصافير.
بدأْتُ بالجاكاراندا والصنوبر ويمكن أَن أُعدِّد أَكثرَ بعد، لكن الشاهد أَنّ هُوية بيروت النضارة تَنقضي نفحةً نفحةً كلّ غروب، وتصحو على استشهاد شجر وأَفياء وباقات زهر، لتعلو الأَبنية وتتلاصق، وتختنق الأَحياء بشواهق العَمار، فلا ظلّ شجرة يبقى، ولا يبقى نسيم يتسلَّـل حافيًا بين أَغصان.
لنا بقيةٌ ضئيلةٌ بعدُ من الجاكاراندا في بعض شوارع بيروت، ننادي ضمائِـر ذوي القرار أَن يُـنـقـذُوها كي تظلَّ عندنا محطة للعصافير الـمُتنـزِّهة في فضائنا، كي يظلَّ لعيونـنا موعدٌ مع الجمال البنفسجي، كي تظلَّ الأَرصفة تتطلَّع فوقُ إِلى خيوط الشمس تُـمطرها جمالًا ملوَّنًا من الأَشعة، كي تظلَّ لنا ذكرى بين أَول الربيع وأَول الصيف، وكي يـبـقى في القلب مكانٌ للشِعـر عند مدخل بيت العاشق وتحت شُـبَّـاك الـحـبـيـبـة.
هـنـري زغـيـب
www.facebook.com/poethenrizoghaib