في منطق الرَصيف أَنه فُسحةُ أَمانٍ للمُشاة، يأْمَنون عليه السير دون خطر السيارات ومفاجآت الطريق.
هكذا يكون الرَصيف واحةَ الـمتنزِّهين، دربَ القاصدين، طريق الاطمئنان إِلى بلوغ المكان المقصود، فالرَصيف في طبيعته هادئٌ هانئٌ خَدومٌ ولطيفُ الخدمة والدَور والوظيفة.
غير أَنه عندنا استقال من خدمته، وأَعلن ثورةً رافضةً غاضبةً على خدمته ودَوره ووظيفته.
ثارَ وغَيَّـرَ وُجْهة منطِقه وأَمانه، وما عاد رصيفًا في منطق الرَصيف: انتفض على فراغه، ويعيشُ قصةَ حبٍّ علنيةً مع النُفايات، يتعلَّقها بغرامٍ عاشق، يستقبلها يوميًّا بكل وَسَاعته ورَحَابته. ما عاد يريد أَن يكون رصيفًا للمشاة مزهوًّا بمساحته كالساحات والباحات، بل بات مُـنْبَسَطَ نُـفايات، معبرَ نُـفايات، موقفَ سيارات، حاجزًا يَسُدُّ الطريق، حيطًا تُعَلَّق عليه البقايا، معرضَ فواكه أَمام المحالّ التجارية، ملعبًا للأَولاد، مَسْلَكًا للدراجات، مَقرًّا للـمتسوِّلين، مُستقرًّا لأَوساخ القطط والكلاب، فُسحةً لبسْطات الطعام، سوقًا للخُضَر والبضاعة الواصلة حديثًا، شرفةً أَرضية للجلوس بعد القيلولة، ساحةً صغيرةً لِلَاعبي الطاولة أَمام المقاهي، ملحَقًا لِقَهاوي الأَراكيل، امتدادًا لطاولات المطعم بحجّة أَنه “مطعم رصيف” (Café trottoir)، وسواها وسواها من خدماتٍ يُـؤَدِّيها الرَصيف بعيدًا بعيدًا عن صفته الأُولى ووظيفته الأَصلية التي من أَجلها رُصِّف.
بلى: بين سائر الانتفاضات عندنا والثورات والاحتجاجات والمظاهرات والتظاهرات والاعتصامات، باتت عندنا ثورة الرَصيف.
استقال الرَصيف من رصيفيَّـته، تخطَّى حدوده، وسَّع التزاماته، وأَعلنها ثورةً على مكانه ومكانته وإِمكاناته. غَيَّـر هُويَّـته الوظيفية فبات على المشاة أَن يَمشُوا لا على الرَصيف بل بمحاذاة الرَصيف، أَن يمشوا على الطريق معرَّضين لجميع أَخطار الطرقات والسيارات والمفاجآت، لأَنّ حضرة الرَصيف استقال من خَدماته، يرفض أَن يعود رصيفًا، يثور على مَهامه المدينية، ولن يتراجع عن دوره الجديد ووظائفه الـمستحْدَثَة.
عندنا… ما عاد الرَصيف رصيفًا. ولا عاد الكورنيشُ كورنيشًا. تحوَّل عن مساره. غـيَّر مسيرته. بدَّل سيره. طَرَد الـمُشاة من قاموسه. اجتاحتْه متطلِّباتٌ أُخرى لا علاقةَ لها بالرَصيف والترصيف.
عندنا… تغيَّر كل مُعطًى مصطلَحٍ عند الناس.
عندنا… ثوراتٌ تولدُ كلّ يوم، حتى عِشنا وشِفنا ثورةَ الرَصيف.
مَـن في العالم عندَه، مثلما عندَنا، لا ثورةُ الرغيف بل ثورةُ الرَصيف؟؟؟