أزرار- الحلقة 922
(*)بلاغةُ الكلمة أَبقى من بلاغة الرقم
السبت 9 كانون الثاني 2016

في السائد العام أَنّ “الرقمَ أَبلغُ من الكلمة”. وهذا صحيحٌ في العلوم، لكنه لا يصح في الآداب والفنون.

الرقم عرضةٌ للتغيُّر زيادةً أَو نقصانًا وحتى إِلغاءً، وتاليًا تبقى “بلاغته” عرضةً للزوال، عكس الكلمة التي لا إِلى زوال.

“الرقمُ الأَبلغ من الكلمة” يظلُّ مُوَقَّتًا حتى يَليه رقمٌ يُلغيه أَو يعدِّله وتاليًا يعدِّل “بلاغته”، بينما الكلمة، منذ البدء، راسخةٌ ثابتةٌ ببلاغتها المستدامة.

هذا لأَقول إِن العلوم، وهي سيّدةُ الرقم ورائدةُ العالَم، بائدةُ الماضي، راهنةُ الحاضر بأَهمِّيتها وضرورتها، تلدُ قواعدَ وسُننًا عابرةً حتى تلدَ أُخرى جديدةً تخلُفُها وتمحوها. هكذا لا مستقبلَ لرقمٍ قيمتُه في حاضره، إِزاء الآداب والفنون التي تلدُ روائعَ يومًا، يكون لها ماضٍ ساطع، تتجلّى في كلّ حاضر، وتظل خالدةً على الدهر كلّ يوم.

آخُذُ مثلًا: كتابٌ في الطب أَو الهندسة أَو الفيزياء أَو الكيمياء أَو أَيّ حقل آخر من العلوم، صدر ذات سنةٍ قبل سنوات بعيدة أَو وسيطة، هل يصلُح أَن يكون مرجعًا لطلّاب اليوم في أَحد تلك الحقول العلمية؟ طبعًا لا. يدخل في المحفوظات فلا يُراجعه طالب أَو باحث إِلاّ في مجال التوثيق إِن كان يحتاج توثيقًا لبحثه الحالي.

في المقابل: آخُذُ كتابَ شِعرٍ لدانته أَو غوته أَو ﭬـيكتور هوغو، أَو نصَّ مسرحية لشكسبير، هل لا يزال يصلح مرجعًا لطلّاب اليوم في أَحد الحقول الأَدبية أَو الفنية؟ طبعًا لا يزال يصلح اليوم كما كان صالحًا بالأَمس وكما سيبقى صالحًا لكل غَـدٍ آتٍ.

هكذا بلاغةُ الكلمة أَبقى من بلاغة الرقم. وهكذا يثبُتُ أَن الثابت هو الإِبداع، والمتغيِّر هو العلْم.

الأَمر ذاتُه ينطبق على الإِنجازات: العلْميةُ لا تُعمِّر إِلّا في وميض زمانها، بينما الفنيةُ تعمِّر في سُطوع زمانها وفي طويل مستقبلها، ويبقى عصرُها زاهيًا في كلّ عصر ولا يخبو بانطواء زمانها.

آخُذُ مثلًا: اختراع الآلة البخارية على الفحم الحجري، زالت أَدواتُها اليوم أَمام الآلات الصناعية الجديدة مع أَنّ الفحم الحجري لم يَـزُل. بينما لوحةُ “الجوكوندا” (1506) أَو السمفونيا التاسعة (1824) لبيتهوﭬـن كانت نضرةً بالأَمس ولا تـزال اليوم نضرةً وستبقى، مع أَن عصرها زال، وزال داﭬـنتشي وزال بيتهوﭬـن.

إِذًا: وهجُ العلْمُ موَقَّت رغم مآثره ومنافعه وضروراته اليومية، بينما مَجدُ الآدابِ والفنونِ دائمٌ، مع أَنها ليست في ضرورات الناس اليومية.

علامة الأُمم الخالدة أَن تُحافظ على الديمومة في تراثها، كي تحفظَ لأَجيالها سُطُوعَ الحضور في ذاكرة التاريخ.


*) النهار السبت 9 كانون الثاني 2016