مِـحـدَلةٌ على سطح، مفتاحٌ عتيقٌ مَنْسِيٌّ في بابٍ عتيق، شُرفةٌ مستوحِدةٌ تتأَمل غُروبَ الشمس وغُربةَ الناس، مندلونٌ يعيش على مذاق التَذكار، قرميدٌ يكتب رسائلَ إِلى دُوريٍّ لم يعُد ينسُج في عُـبِّـه عشَّه، جرنٌ على سطيحة يَـبحث عن الـمِدقّة، حوضٌ قاحل يعطَش ترابُه إِلى همس الزهور، درَجٌ نزلت عنه الأَقدام وأَضاعت طريقَ العودة فنبَتَ بين أَسنانه اليَـبَاس، عريشةٌ على سطحٍ غافلةٌ عن زوغة عناقيدها، عصافيرُ تركَت ذكرياتِ ريشِها على الأَوراق بين كروم العنب والتين، … تلك بعضُ صفحاتٍ فوتوغرافيةٍ من كتاب إِدي شويري الجديد “القريةُ – محميَّةُ البيت اللبناني“، الصادرِ في بيروت قبل أَيامٍ بالفرنسية والإِنكليزية والعربية كتاباً فنياً جميلَ الإِخراج والطباعة عن منشورات “مكتبة أسطفان” في 272 صفحة قطعاً موسوعياً كبيراً، على غلافه ضيعةُ دوما، على غلافه الأَخير قصر آل جنبلاط في المختارة، وتطلُّ من الكتاب 280 صورةً ملونةً تكمل رحلة إِدي شويري إِلى ذاكرة الصورة في لبنان، بعد كُتُبه الثلاثة عن “آثار صوفر” و”سكّة الحديد” و”محمية أَرز الشُوف”.
كتابه الجديد هذا “القرية – محميَّةُ البيت اللبناني” ينحَت للمستقبل ماضياً ينحدِر صوب الزوال فتلتقطُ كاميراهُ بقايا البقايا من وادي قاديشا ومزرعة كفرذبيان ودُوما ودير القمر والشوير وبيت شباب وراشيا الوادي ومعاصر الشوف وحصرون، ومن الجنوب: رومين، صربا، القوزَح، ومن عكّار: عيون الغزلان وبرقايل وبينو وخربة داود، ومن البقاع: مجدلون ودورس والخريبة وشَعْتْ وطاريا وتربل، …، لقطاتٍ مؤثِّرةً للعين والنوستالجيا، منها: جسرٌ عتيقٌ لا تحته ينطقُ نهرٌ ولا فوقه تتسامر خَطَوات، طاحونةٌ تتلهّف إِلى حبة قمح، ساحةُ ضيعةٍ فارغةٌ من هيصة الزوار في السوق العتيق، صوبيا مهجورةٌ مشتاقةٌ مِدفأَتُها إِلى خبريات ستي الختيارة في وَلْوَلَة ليالي الشتاء، بيتٌ عتيقٌ مهجورٌ يتفيَّأُ سنديانةً ختيارة أَو صنوبرةً مختارة، قبضةُ يدٍ على بوابة، ليوانٌ يسترجع ضحكاتٍ ووقْعَ أَقدامٍ في رواق لم يعُد يأْمل باستقبال، قناطرُ باتت صدى لأَصواتٍ غابت ولن تعود، فتحةُ بِـئْـر عرّشُ العشب على حافتها، درابزينٌ صَدِئَ النسيان على قضبانه، علّيّةٌ شَحُبَت عليها مواعيدُ العرس، سُلَّمٌ يتثاءب ضَجَراً على ذقْن سطحٍ ولا مَن يرغب في امتطاء السطح، يوكٌ مفتوح لا لِـحافَ يدخُله ولا فِراش، فَراشاتٌ تائهة تبحث عن ثوب العرس في قمصان شجر اللوز، زخارفُ ونقوشٌ على السقوف والجدران ولكن لا عيونَ ترى جمالها، جنينةٌ تَعُدّ مـماشيها كي لا تضجرَ من التأَمُّل في الزمن الهارب، ضُـمَّـةُ بُـيـوتٍ تستريح عند صدر جبلٍ أَو لِـحْفِهِ أَو قَدَمه أَو خَصره أَو قِمّته وتصغي إِلى سكينة العمر فوق هَــيْــبَــة الوادي، وسواها وسواها من أَصداءِ أَصواتٍ خَفَتَت أَو اضمَحَلَّت فبقي الصدى عالقاً على أَهداب كاميرا إِدي شويري، تدعمها مقدمةٌ توثيقيةٌ من المهندس جاك ليجيه بيلير الذي زار لبنان قبل نصف قرن وما زال فيه حتى اليوم، أَحدَ أَبرز مَن كتبوا عن تراث لبنان المعماري وضرورةِ المحافظة عليه.
كتاب إِدِي شويري الجديد “القرية – محميَّةُ البيت اللبناني” سِفرٌ لذاكرتنا البصرية والذهنية والوطنية، بطاقةُ هويةٍ حَنونٌ لوطننا الغالي في أَكثر حميمياته تاريخاً: القريةُ اللبنانية قبل أَن تُصبحَ تراثاً من الماضي يهدِّدُه الحاضر بِعُقوبة النسيان.