من منابع الغناء التقليدي إِلى الأَنواع الموسيقية المختلفة في جبالنا والقُرى والمدن، إِلى تأْثيراتها جيلاً بعد جيل، إِلى مكوِّناتها الشَفَوية والتقْنية، إِلى خصائصِها ومراحلِها منذ المطالع، إِلى نشْر نوتاتها، إِلى عرض نصوصِها الموسيقية وتحليلِها، إِلى خارطة انتشارِها جغرافياً وتاريخياً، إِلى ما يـبقى منها اليوم، تلك هي المهمَّة التي انبرى لها الباحث الموسيقي الأَب الدكتور بديع الحاج في كتابه “الموسيقى التقليدية في لبنان”، الصادر بالفرنسية في ﭘـاريس قبل أَيام عن منشورات “غوتـنـر” في 366 صفحة حجماً كبيراً، تَرفُدُه أُسطوانةٌ مُدمَجَة طولُها 150 دقيقة، فيها 119 لقطة صوتية لأَزجال العتابا والشروقي والقصيد والقرادي والموشَّح والدلعونا والغزيِّل وأَبو الزّلُف والميجَنا والمعنّى والحدا وسائِر الأَنواع المتداوَلة على المنابر وفي المناسبات وفي الأُغنيات الشعبية الرائجة على أَلسنة العامة منذ عقود.
من رصانة البحث في هذا الكتاب أَنّ المؤلف طيلة سبع سنوات (1994-2001) جال على قرىً ودساكرَ في مناطقَ مختلفةٍ من لبنان وسجَّل مقاطعَ صوتيةً بأَصوات مُنشديها، ثم انصرف إِلى تدوينِها نصوصاً وإِلى كتاباتِها نوتاتٍ وتحليلِها على المعايـير الموسيقية لاستنباط جذورٍ لها وأُصولٍ، ووضْع خارطةٍ لتَطَوُّرها عبر السنوات. وتقدَّم بها المؤَلف أُطروحةً رصينةً معمَّقةً نال عليها درجة الدكتوراه في الموسيقى علْماً وتاريخاً من جامعة السوربون في ﭘـاريس، جامعاً إِليها اختصاصَه في الموسيقى الإِتنية وأَنواع الموسيقى التقليدية في الشرق الأَوسط، ما مكَّنَهُ من الجمع بين الفولكلور الموسيقيّ في لبنان والثقافات الموسيقية في العالم بالغاً رؤْيةً للفنون في عالَـمٍ موسيقي لامحدود، وهو ما يُعطي كتابه هذا “الموسيقى التقليدية في لبنان” عمْقَه البحثيّ الأَكاديمي، منطلِقاً فيه من الإِطار التاريخي الثقافي في لبنان عموماً وفي منطقة البدو البقاعية خصوصاً بما كان لها من تأْثيرٍ على الفولكلور الموسيقي في لبنان، منتقِلاً بعدها إِلى الشعر العربي الفصيح بين الكلاسيكي العربي والسرياني والبدوي والشعبي وصولاً إِلى الزجَل بشكـلَيه الـمُلْقى والـمُغَنّى وعلاقته بالزجل الأَندلسي والإِنشاد السرياني، مواصلاً بحثَه إِلى الموسيقى العربية ميلودياتٍ ومقاماتٍ، فإِلى دراسة الغناء في لبنان بِقاعاً وجنوباً، خاتماً بتحليل الأَغاني وتصنيفها والآلاتِ الموسيقية ورقصةِ الدّبكة وُصولاً إِلى حصيلة بحثه الختامية وإِرث الأَخوَين رحباني بين التقليد والتجديد.
وجاءَت بليغةً عبارةُ المؤَلّف في خلاصة الكتاب: “دراسةُ شعبٍ من خلال موسيقاه وأَغانيه وشِعره، هي دراسةُ إِنسانِه عُمْقياً في بُعدَيه العموديّ والأُفقيّ. وللفن الموسيقيّ في لبنان دورٌ أَوّلُ في حياة اللبناني الذي من مَهده إِلى لَحده ترافقه الموسيقى تعبيراً عن عواطفه الخاصة ومشاعره العامة. فلكلّ شعبٍ فولكلورُهُ الموسيقيّ الخاص الذي هو عنصرٌ مكوِّنٌ شخصيةَ الشعب وهُويَّـتَـه، والحفاظُ عليه واجبٌ إِنساني واجتماعي ووطني”.