قبل أَيامٍ أَقفلَ أَبوابَـه معرضُ الكتاب الفرنسي الثاني والعشرون، وبعد أَيامٍ يفتح أَبوابَه معرضُ الكتاب العربي التاسعُ والخمسون. وإِذا الأَوَّلُ ثالثٌ في العالم (بعد ﭘـاريس ومونتريال) وهذا مجدٌ لبيروتَ الكتاب، فالأَخيرُ لا يقلّ شأْناً عن أَيِّ معرضٍ عربيٍّ آخرَ للكتاب، ويجعل حـبـيــبَـتَـنـا بيروت نجمة الكتاب في أَيِّ معرض وأَيِّ لغة.
أَعود إِلى المعرض الأَول وشعاره هذا العام “كتُب حُرَّة”. أَصداؤُه إِيجابية من ناشرين ومؤلِّفين، وكان زاخراً باستقبال مؤَلّفين فرنسيين أَو بالفرنسية (بينهم حاملو جوائز عالمية لأَحدث مؤَلّفاتهم) وبعددِ الناشرين المشاركين، وبوفرة ندوات ولقاءَات ومحاضرات شهدتْها قاعاتُ “البيال”.
غير أَن تلك الأَصداء الإِيجابية (مبيعاتٍ وتواقيعَ) كانت مشوبةً بجامعٍ مشتَرَك: قلَّة الزوار عمّا قبل. وهي ظاهرة تستدعي الالتفات لتشخيص أَسبابها، لأَنّ لها تأْثيراً عاماً على سمعة المعرض، وتأْثيراً خاصاً على سوق الكتاب في لبنان.
لعلَّ رأْسَ الانقباض في الحضور: الوضعُ العام في البلاد سياسياً واقتصادياً ومالياً، بمعنى أَن الإقبال يرتبط عموماً بالقدرة الشرائية لدى مواطنين يتحسّبون لها مقابل أولويات لهم عائلية وشخصية، وهذا أَمر ينسحب على قطاعات أُخرى كذلك غير الكتاب.
وفي سبب آخر يأْتي الإِعلام الذي كان معظمُه باهتاً في تغطية الحدث، عدا تغطيات إِخبارية “واجباتيّة” للافتتاح الرسمي، فيما غابت الشاشاتُ عن توليف ريبورتاجات يومية أَو شبه يومية تعرض وهجَ المعرض وأَهميتَه ومردودَه الثقافي والإِعلامي، ما يشجّع المشاهدين (آباءَ ومدارسَ وتلامذةً وطلاباً ومثقَّفين) على التوَجُّه إِلى “البيال”. لكنّ معظم محطاتنا التلـﭭـزيونية مشغولة ببرامج ترفيه وتسلية وحزازير ونِكات وكوميديات “تروِّحُ” عن المشاهدين الكرام وتُبعِدُهم عن كل قيمة ثقافية ومستوى فكري.
ومن اللافت أَيضاً غيابُ المدارس (إِلاَّ قلَّةً) عن المعرض مع أَنه في مطلع موسم دراسي يَجْمُلُ أَن تكون فاتحتُه اصطحابَ التلامذة إِلى “البيال” يبنون علاقةً حميمةً مع الكتاب خارج قاعة الصف وحقيبة الكتب، فينشأُون على فُضول القراءة وجعْل الكتاب رفيقاً ورغبةً وحاجةً. وليس صحيحاً أَنّ الوسائط التكنولوجية والإِلكترونية تُبعد أَولادَنا عن الكتاب الورَقيّ، فالمستقبل مهما خبا معه الورق يظل هو الأَبقى في مكتبة البيت أَو المدرسة.
أَكتُب، وفي بالي معرضُ الكتاب العربي بعد أَيام، أَلاَّ يكونَ وهجُه باهِتَ الحضور، وكي يظلَّ الكتابُ حاجةً لا تَرَفاً تسلَوياً، وخبزاً لا قطعةً في المكتبة، وكي تكونَ القراءةُ علاقةً وُثقى بين أَولادنا والكلمة لا يعوِّضُهم عنها انشغالُهم بِـــإِلكْترونيّاتٍ تُلْهيهم فيها مراسلاتٌ سريعةٌ ورسائلُ نَصيةٌ تُبعِدُهم عن اللغة لِساناً وكتابةً ونهجَ تفكير.
*) “النهار” – السبت 7 تشرين الثاني 2015 (استـثـنـائياً هذا الأُسبوع، صَدَر المقال الجمعة 6 تشرين الثاني).