في طبعةٍ أَنيقةِ الإِخراج، موسوعيةِ الحجم، من 272 صفحة، أَصدرَت دار “كُتُب” سنة 2010 كتاب “طرابلس الشام: جولةٌ مصوَّرةٌ مع البطاقات البريدية” للكاتب بدر الحاج يعرِض فيه بطاقاتٍ بريديةً يرقى أَقدمُها إِلى طرابلس سنة 1890.
أَهميةُ الكتاب في حفْظِه، بَصَرياً، تراثَ عاصمتِنا الثانية في عقودِها الـمُـتـتالية، بدءاً من غلافه الداخلي يمتدُّ عليه من جهةٍ شَطُّ طرابلس ومن الأُخرى حيُّ القبّة وجبل تربُل. ليس سرداً بحثياً هو، ولا تأْريخاً بل ثَـبْـتُ مواقعَ طرابلسيةٍ تغيَّرت اليومَ جذرياً، وبعضُها زال كلياً بِــما شهدَتْه المدينة تباعاً من تَغيُّراتٍ منذ مطلع القرن العشرين.
يُؤْسِف في مطلَع الكتاب تقريرٌ وضعَه سنة 1953 رئيس بعثة الأُونسكو إِلى لبنان ﭘــول كولارت جاء فيه: “مدينةُ طرابلس القديمةُ أَثَر فني مميز، يلزمها بعض ترميم وتخطيط فتستعيدُ جماليَّتها السابقة ومكانتَها السامقة كما كانت في الماضي، على أَمل أَن تبادرَ الحكومة اللبنانية إِلى ذلك بعيداً عن المصالح الخاصة فتعيدَ إِلى هذه المدينة الجميلة عراقتَها التاريخية“. ولكنّ الحكوماتِ المتعاقبة لم تهتَمَّ لهذا التقرير، وبقيَت معالم طرابلس تَــتَــحَــتَّـت مع السنوات في إِهمالٍ مأْساوي.
رحلةُ البطاقات البريدية في الكتاب تبدأُ من ولاية طرابلس مركز ولاية العثمانيين منذ دخلوا بلادنا سنة 1516. وأَقدَمُ صورةٍ عنها بعدسة ميشال داﭬـيد في العَقد الأَخير من القرن التاسع عشر. منها ينقلُنا الكتاب صفحةً صفحةً وصورةً صورةً إِلى الميناء فـإِلى التلّ فالقلعة فنهر أَبو علي فالمولوية فأَبوابِ طرابلس ومساجِدها وكنائِسها وأَديارها وأَبراجها وأَسواقها وأَزقَّتها الداخلية المتأَفْعِنَةِ بين البيوت، وإلى مدارسِها وخاناتِها وشوارعِها الداخلية الضيِّقة وطرُقات المواصلات فيها واقتصادياتِها ومُتَنَزَّهاتِها القديمة، حتى ينغلقَ الكتاب في صفحته الأَخيرة وصورتِه الأَخيرة على عبَقٍ من تاريخ المدينة العريق في أَجمل ما يمكن أَن تحفَظَه الذاكرةُ البصريَّة.
مئاتُ الصور يَضمُّها هذا الكتاب اللافت، لـمئاتِ بطاقاتٍ بريديةٍ تنقُلُنا إِلى الأَحياء القديمة في المدينة، إِلى ساحاتها العامة والخاصة، إِلى بـيّاعيها الجوّالين، إِلى الترامواي يجرُّه حصانان، إِلى جسر البحصاص ولم يَعُد موجوداً، إِلى محطة السكة الحديدية في الميناء ولم تَعُد موجودة، إِلى الخاناتِ العتيقة، إِلى مبنى الجمارك في المرفإِ ولم يَعُد موجوداً، إِلى هُبوط أَوّل طائرة فرنسية في طرابلس سنة 1913، إِلى بُرج الساعة، فـإِلى القلعةِ ذات الـهَـيْـبَـة العالية ومحيطِها والإِطلالة منها على انبساط المدينة.
صُوَرٌ… صُوَرٌ تَتَوالى، ومعها تَتَوالى طرابلس تلك الأَيام العتيقة، تعود إِلينا في هذا الكتاب من بطاقاتٍ بريديةٍ كانت من زمان تَنقُل طرابلس بالبريد من مدينة إِلى مدينة، ومنها إِلى العالم، ناشرةً معالِـمَ قديمةً من طرابلس زال معظمُها، لكنها ما زالت تحمِلُ عبقاً من تلك المعالم تحملُها إِلى الزمن الآتي كُــتُــبٌ وصُــوَرٌ تُـبْـقي مدينتَنا الشماليةَ الغالية في تَوَهُّج الذاكرة.