صحيحٌ أَنّ الدولة ليست مسؤُولةً عن غَرَقِ أَيِّ زورقٍ يُبحر من شطٍّ لبناني وينقلب بين هوج الأَمواج، أَو يغور بثقله لزيادة العدد في ركابه فيَسقط منه مَن يَسقُط، ويَموت مَن يموت، مِن الأَطفال والنساء والعُـجَّـز، وينجو بأُعجوبةٍ نادرةٍ من ينجو إِذا نجا…
وصحيحٌ أَنّ الدولة غير مسؤُولةٍ عن قرار من يَـئِـسُوا من وضعهم في الوطن فقرَّروا المغامرة مع براثن الموت لعلَّ المغامرة توصلهم من بحر الخطر إِلى بر أَمانٍ في دولةٍ يحضنهم فيها أَمان…
ولكنّ الدولة مسؤُولةٌ قبلذاك مرتين: أُولى بسياساتها غير المسؤولة، لا تجد للمواطن فُتحةً من أَملٍ ولا خيطاً من نورٍ ولا وعداً جِدّياً يتحقّق فعلياً، والمرة الأُخرى مسؤولةٌ هذه الدولة بِغَضِّ النظر أَو بِعَمى النظر عن مافيات تهريب الناس لاشرعياً من أَيِّ مرفإٍ غير شرعي فيُودُون بهم إِلى موتٍ شرعي.
هذا الارتماءُ الطوعيّ بين أَشداق الخطر سَبَبُهُ ارتماءُ الناس قسرياً في اليأْس الأَعمى والقنوط الرهيب والإِحباط القاتل، وهو بلَغَ دَرْكاً منحطاً خطيراً بشعور الناس، مواطنين ولاجئين ونازحين، أَنهم في بيتٍ بلا سقف، في خيمةٍ بلا أَوتاد، في صحراء بلا أَمان، في غابةٍ بلا حُرّاس، في أَدغالٍ بلا حماية، في مزرعةٍ أَسيادُها غافلون عن أَهلها، في قبيلةٍ “يَتَدايَكُ” زعماؤُها في قصورهم غيرَ منتبهين إِلى أَنّ خارج قصورهم ناساً يتلاطَمون بمصيرِهم الأَسود، في عشيرةٍ يسوسُها نَـفَـرُ سياسيين يُديرون شؤونَهم لا شؤُونها، حتى بات انتخابُ رئيس الجمهورية لازمةً مُـمِلَّةً جوفاءَ روتينيةً لا يهتمُّ لها أَحد ولا يُصدِّقها أَحد ولا ينفَكُّ السياسيون والمسؤُولون الدينيون والدنيويون يعلكُونها يومياً بين شفاههم الباردة وضمائرهم الشاردة.
ومَن لا يغرقُ في البحر الأَبيض المتوسط يغرَق في بحرِ نُفايات أَسود لا يجدُ المواطنون إِزاءَه إِلاّ التوعية على الانتباه في القيادة، والأَفضل عدمُ الخروج من البيت إِلاّ عند الضرورة القصوى كي يتجنّبوا الانحباس وسْط غابة سيارات غارقة في بحيراتٍ على الطرقات، أَو كي يتجنّبوا ما ينتظرهم من كوليرا وطاعون وتلوُّث المياه الجوفية فلا يشربوا إِلاّ عند الضرورة القصوى، ولا يأْكُلوا إِلاّ عند الضرورة القصوى، ولا يَعيشوا إِلاّ عند الضرورة القصوى.
المواطنُ اليوم يتساءَل: ما الفرقُ بين السلطة والـمتسلّطين؟ بين النظام ومغتصبيه؟ بين الحُكّام والمتحكِّمين؟ وما دورُ هؤُلاء المسؤُولين غيرِ المسؤُولين يتقاذفون كُرَة المسؤُولية بين بعضهم بعضاً، ويتأَسَّفون، ويَدُقّون نواقيس الخطر، ويتّهمون سواهم، ويتنصَّلون من مسؤُوليتهم؟
المواطنون اليوم يُشيحون بوجههم لا عمّا يشاهدون من نُفايات وفضائحَ، بل خجلاً من أَن العالم يُشاهدُ لبنانَ نُفاياتٍ تجرفها الأَمطار وتجرف معها كُلَّ أَملٍ بسياحةٍ في لبنان، وكُلَّ أَملٍ بِنُمُوٍّ اقتصادي في لبنان، وكُلَّ أَملٍ بـدولةٍ تقوم من دمار الحاضر إِلى عمار المستقبل طالما يَسوس القبيلةَ مَن لن يرحلوا عن صدر الناس وإِذا رحلوا ضيَّفونا أَبناءَهم وأَصهارهم كي يُكْمِلوا على نهجهم حُكْمَ القبيلة والتَحَكُّم بِناسها المكسورين حتى يهربوا لاشرعياً في لُـجّة الليل فيبتلعهم شرعياً بحرٌ رهيبٌ يُوْدِي بهم غَرْقى إِلى أَعماقِهِ الرهيبة.